فى صباح الجمعة، السابع من نوفمبر 2025، تحول ميدان الرماية إلى لوحة من الحياة.
صفوف طويلة من الأسر والعائلات أمام المتحف المصرى الكبير، أطفال يحملون أعلامًا صغيرة، وآباء يرفعون هواتفهم لالتقاط صور لتاريخ يعود للحياة. المشهد بدا كأنه احتفال غير معلن بالهوية المصرية.. احتفال صنعه الناس، لا المنظمون.
ومع تزايد الأعداد، أعلنت إدارة المتحف فى بيان رسمى أن الزيارات قد تجاوزت السعة التشغيلية الكاملة، ما استدعى إيقاف بيع التذاكر لبقية اليوم، والاكتفاء بالحجز الإلكترونى لأيام العطلات ونهايات الأسبوع.
قرار تنظيمى بسيط فى ظاهره، لكنه يحمل فى مضمونه دلالة ثقافية عميقة: المصريون يعودون إلى حضارتهم، ويصطفّون اليوم أمام متحفهم كما يصطفّ العاشق أمام محبوبه القديم.
«حضارة تُستعاد من بين الغبار»
ليس المشهد جديدًا على مصر، لكنه مختلف هذه المرة، فبعد سنوات من الحديث عن ضعف الإقبال المحلى على المواقع الأثرية، جاء المتحف المصرى الكبير ليقلب المعادلة.
هنا لم يعد التراث «موضوع دراسة»، بل تجربة حية يعيشها الناس.
الزائر لا يذهب لمشاهدة تماثيل حجرية صامتة، بل يواجه نفسه، يرى ملامحه فى وجوه الملوك القدماء، وذكاءه فى تفاصيل النقوش، وصموده فى الحجارة التى قاومت الزمن.
إنه حوار بين الماضى والحاضر، حوار انتصر فيه الشعب لهويته دون شعارات أو مؤتمرات.
وأشاد رواد مواقع التواصل الاجتماعى بالإدارة الحكيمة للمتحف و التنظيم الذى يليق بالمكان،
فإدارة المتحف تعاملت مع الإقبال غير المسبوق بوعى ومرونة، فأصدرت قرارها بقصر حجز تذاكر عطلة نهاية الأسبوع على الموقع الإلكترونى فقط، ضمانًا لتنظيم الدخول وتقديم تجربة آمنة ومريحة،وأعلنت أيضًا أن جميع التذاكر الصادرة مسبقًا تظل سارية، وأن الزائرين الذين لم يتمكنوا من الدخول يمكنهم استخدام تذاكرهم فى يوم آخر.
هذا التفاعل السريع والشفاف مع الجمهور يعكس فلسفة جديدة فى إدارة الثقافة، حيث لم يعد المتحف مجرد مبنى لعرض الآثار، بل مؤسسة حية تتعامل مع جمهورها بذكاء واحترام، وتضع تجربة الزائر فى قلب الاهتمام.
«المصريون.. جمهور الحضارة الحقيقي»
ما يحدث أمام المتحف المصرى الكبير ليس مجرد ظاهرة سياحية، بل حالة وعى جماعى، لأول مرة منذ عقود، يصبح الحديث الشعبى عن زيارة المتحف المصرى الكبير أكثر انتشارًا من أى فعالية ترفيهية أو مهرجان.
الناس يتبادلون صورهم أمام تماثيل رمسيس، وينشرون مقاطع انبهار أطفالهم داخل القاعات الزجاجية، فى مشهد يعيد تعريف مفهوم «الانتماء».
تقول منى عبدالرحمن، أم لطفلين من الجيزة:
لم أكن أتخيل ان أولادى سيقفوا مدهوشين أمام تمثال، و لكن عندما شاهدوا توت عنخ آمون ،قالوا لى هذا جدى و نحن فخورين بكوننا مصريين.
ويقول أحمد السيد (موظف من بنى سويف): كنت أسمع عن المتحف المصرى الكبير فى الأخبار فقط، لكن عندما رأيته بعينى شعرت أننى أعيش داخل التاريخ نفسه ،كل قطعة هنا تحكى عنا، عن صبرنا وعبقريتنا وذكائنا، أكثر ما أسعدنى أننى رأيت أولادى يسألون عن معنى النقوش وأسماء الملوك، كأنهم يريدون أن يعرفوا جذورهم.
وتقول سمر محمود (مدرسة تاريخ من القاهرة) : زيارة المتحف كانت بالنسبة لى درسًا فى الانتماء أكثر من كونها رحلة ،شعرت أن الحضارة التى أدرسها فى الفصل ليست مجرد فصول فى كتاب، بل حياة كاملة نعيشها هنا ،المصريون عندما يتقربون من تراثهم بهذا الشغف، يؤكدون أنهم ما زالوا أوفياء لهويتهم مهما تغير الزمن.
نستطيع نؤكد أن الإقبال الكبير من المصريين لا يقل أهمية عن الزيارات الدولية، لأن المتحف فى الأساس صُنع ليعيد المواطن إلى تاريخه، قبل أن يعرف العالم به.
كما أن المتحف المصرى الكبير ليس فقط أكبر متحف أثرى فى العالم، بل هو أول حوار حقيقى بين التاريخ والتكنولوجيا فى مصر الحديثة،الواجهات الزجاجية، والعروض الرقمية، ومسارات الزيارة التفاعلية، كلها تعكس رؤية جديدة تجعل الزائر يعيش التجربة لا يراها فقط،هذا الدمج بين الأصالة والحداثة هو نفسه ما يبحث عنه المصرى فى حياته اليومية؛ أن يكون ابن حضارة قديمة، لكنه قادر على مواكبة الحاضر بثقة، دون أن يفقد ملامحه،حضارة لا تحبس خلف الزجاج،
المتحف المصرى الكبير اليوم ليس مجرد موقع أثرى، بل رمز لوعيٍ جديد ينتشر فى الشارع المصرى.
الإقبال الشعبى الكثيف لا يُقاس فقط بعدد التذاكر المباعة، بل بعدد القلوب التى استعادت إحساسها بالفخر.
و حين يتزاحم الناس للدخول لا لمشاهدة تمثال بل لملامسة فكرة «من نحن»، فذلك يعنى أن مصر بدأت تستعيد هويتها من جديد.
وحين يضطر المتحف لإيقاف بيع التذاكر بسبب تزايد الزوار، فهذه ليست أزمة تنظيمية.. بل أجمل أزمة يمكن أن تمر بها الحضارة المصرية.
من أمام المتحف المصرى الكبير، حيث يقف تمثال رمسيس كأنما يبتسم لزائريه، يمكن أن نسمع همس التاريخ يقول: «من يعرف جذوره، لا يخاف المستقبل».
وهكذا، ينتصر المصرى لهويته من جديد.. لا بشعارات أو خطب، بل بخطوة نحو المتحف، وبنظرة إعجاب صادقة، وبإحساس جمعى أن الحضارة ليست ماضينا فقط.. بل حاضرنا ومستقبلنا أيضًا.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" روز اليوسف "










0 تعليق