فى 1 نوفمبر 2025، تم افتتاح المتحف المصرى الكبير بعد أكثر من عشرين سنة من الانتظار.. ليصبح أضخم متحف فى العالم مخصصًا لحضارة واحدة هى الحضارة المصرية القديمة. وهو يعد إنجازًا فارقًا فى مسيرة الدولة المصرية فى طريق استعادة مكانتها الحضارية، ليس بوصفها دولة آثار فحسب، بل بوصفها مركزًا حيويًا للذاكرة الإنسانية. وعلى الرغم من أن حفل الافتتاح.. حمل رمزية ثقافية وتاريخية عالمية، فإن السوشيال ميديا لم تره كذلك. بل تحولت المنصات إلى ساحة تندر.. انتقاد للإضاءة، وسخرية من الحفل، والحكم على الإخراج بالفشل، وتعليقات من عينة: كم تكلفة هذا المتحف؟ أو هل نحتاجه فى ظل التحدى الاقتصادى؟!
فجأة.. يتوقف ما سبق، ليبدأ التريند الجديد «جلابية المتحف».
تهوين وتحقير وسخرية..
مشهد عبثى.. يعكس أزمة وعى أكثر مما يعكس خلافًا فى الرأى، بدا وكأن المجتمع لايحتمل مشهد نجاح.. دون توريطه فى صراع أو فضيحة.. حتى فى لحظة التميز الوطنى.
يتكرر هذا المشهد العبثى ذاته مع كل إنجاز ثقافى أو وطنى.. التهوين، والتحقير، والسخرية، ثم اختزال العمل فى شائعة أو نكتة. هذه الآلية النفسية والاجتماعية تحولت إلى جزء من خطاب عام يرى فى النجاح مجرد استعراض، وفى الفخر مجرد تباهٍ.
لم يسلم المتحف الكبير من هذا المشهد. وبينما يشيد العالم بالمتحف.. باعتباره حدثًا ثقافيًا غير مسبوق فى الشرق الأوسط، انشغل البعض بتسفيه الفكرة برمتها.. خطاب يفرغ الإنجاز من مضمونه، ويحيله إلى مادة للتندر. وهو ما ينتشر فى ظل وجود أصوات.. لم تعد تملك مشروعًا حقيقيًا سوى المعارضة الصاخبة التى تتخذ الهدم والتشكيك منهجًا.
أبهر العالم وسخرنا منه..
أشاد الإعلام العالمى بالمتحف باعتباره معجزة هندسية وثقافية. التغطية الدولية.. ركزت على روعة التصميم، وضخامة المقتنيات، والدلالة الإنسانية لمصر التى تقدم تاريخها الحضارى للعالم. ولكننا أبناء هذا التاريخ.. تعاملوا مع المتحف كأنه مشروع ترفيهى. ولم يروا فيه الجهد ولا الرسالة، بل سارعوا بالتهكم والسخرية.
هذه ليست أزمة ذوق وإحساس فحسب، بل أزمة هوية حضارية. نبدو فى لحظات كهذه وكأننا لم نحسم علاقتنا بتاريخنا بعد: هل نحتفل به؟ أم نتبرأ منه؟ هل هو إرث ثقافى أم عبء دينى؟ هل تراثهم فن إنسانى مرتكز على العلم والفن أم أنها مجرد أصنام وثنية؟!
فى بلد يملك أقدم حضارة إنسانية، يصبح السؤال: هل نحن أبناء مصر القديمة أم نقيضهم؟
جلابية بارتى..
تم مواجهة هذا التشويه المتعمد والممنهج.. باتجاه مقابل يرى المتحف على حقيقته. وانحصر التشويه بسبب الدعم والإشادة الواسعة بالمتحف المصرى الكبير وقيمته. ووسط الاحتفالات.. تسللت صورة لمواطن مصرى بسيط.. يرتدى جلابية داخل المتحف. لم تكن تلك الصورة.. أكثر من لقطة عادية جدًا لزائر مصرى بين كنوز بلده، ولكنها على غير المعتاد.. تحولت إلى «تريند».
وبدأت التصريحات والتعليقات على السوشيال ميديا.. تتساءل: هل يليق الدخول بهذه الملابس؟ وهل هذه الصورة تعبر عن مصر الحديثة؟ وبدلًا من الاحتفاء بأن أبناء مصر من الريف والصعيد.. باتوا يزورون متحفهم، تحول الأمر إلى هجوم على الزى الشعبى التقليدى ذاته.
وفى لحظة واحدة، أصبحت الجلابية رمزًا للتخلف.. فى مقابل الملابس الغربية كرمز للتحضر. وهكذا دخلنا إلى دوامة جديدة.. تبدو كأنها معركة المظهر بديل عن الجوهر، والطبقة الاجتماعية بديلة عن الإنسان.
طبقية ودينية..
ما حدث.. لم يكن نقاشًا عابرًا عن الذوق العام، بل مواجهة فكرية بين مدرستين داخل المجتمع المصرى. الأولى هى مصر المدنية الحديثة التى ترى أن المتحف هو ملك لجميع المواطنين المصريين سواء كان فلاحًا أو عاملًا أو مثقفًا أو وزيرًا.. فالجميع متساوون، ولهم الحق فى الدخول والاعتزاز. أما الثانية، فهى مصر القديمة الجديدة التى تعيد إنتاج وتكريس البطريركية الهرمية الأبوية طبقيًا ودينيًا، وتحتكر الفضاء العام لأصحاب المظهر المناسب. وتحول الجدل حول الجلابية إلى اختبار انتماء.. وكأن المصرى البسيط الذى جاء من قريته ليزور المتحف صار متهمًا بتشويه الصورة الوطنية لمصر. ولكن تظل الحقيقة أن من شوه الصورة هم أولئك الذين اختزلوا الإنسان المصرى فى مظهره، والمواطنة فى تصميمات الملابس وموديلاتها.
تريند الجلابية..
النتيجة أنه تم اختصار الافتتاح التاريخى فى صورة واحدة. وتم اختزال أحد أهم متاحف العالم فى نقاش سفسطائى عقيم. هذا الاختزال ليس بريئًا، بل يكشف عن عقلية اجتماعية تميل إلى «تأميم الذوق العام»، واعتبار التنوع تهديدًا لهذا الذوق الافتراضى.
الجلابية التى كانت فى يوم من الأيام.. عنوانًا للبساطة والعمل والشرف، تحولت فجأة إلى رمز للتخلف والرجعية. إنها حرب رموز تدور فى بيئة ثقافية مأزومة.. ترى التحضر فى الشكل وليس فى السلوك.
المفارقة أن المتحف.. بما يحتويه من تماثيل ونقوش وألوان.. يقدم درسًا فى التنوع والاختلاف، بينما نحوله نحن إلى قاعة لمحاكمة التاريخ.
المتحف ليس قضية دينية..
الأخطر فيما ترتب على ما حدث هو التورط فى تديين النقاش.. بعد ظهور فيديو لشخص يتلو آيات من القرآن الكريم عن فرعون أمام المتحف الكبير فى تلميح واضح وصريح أنه شرك وعبادة أصنام. وما تلاه من تصاعد أصوات.. رفعت شعار تندرج تحت فكرة عدم جواز تمجيد الأصنام الأوثان، كما حذرت من زيارة الأماكن التى تضمها وتعرضها مثل المتحف.
خطاب.. يعيدنا إلى مربع الهلع الدينى من التاريخ، وكأن كل تمثال هو عامل خطر على الإيمان، وكل متحف هو تهديد للعقائد الدينية.
إنها حالة متكاملة من تديين الحياة الثقافية وتطيفها من خلال الخلط المتعمد بين الإيمان الشخصى والانتماء الوطنى. فى الدولة المدنية، لا يملك أحد حق فرض أى شكل من أشكال القراءة الدينية على المتحف أو الفن أو التاريخ.
المتحف المصرى الكبير ليس معبدًا، والتماثيل ليست آلهة أو أوثانًا وأصنامًا. كما أن الافتخار بالماضى لا يتناقض مع الإيمان بالله. وأن الذين يتمسكون ويصرون على تديين كل مساحة عامة، إنما هم يستهدفون مصادرة الدولة المدنية لصالح دولة الوصاية الدينية، حيث يصبح كل إنجاز ثقافى محل تشكيك، وكل تراث إنسانى محل اختبار شرعيته الدينية.
الحضارة بنكهة الفتوى الدينية..
المفارقة، أن البعض من أنصار المتحف المصرى الكبير.. وقع فى الفخ ذاته، فبدأ يبرر بأن المصريين القدماء.. كانوا موحدين أو بالتأكيد على أنهم لم يعبدوا أصنامًا بالمعنى الحرفى.
وكأن الدفاع عن الحضارة لايكتمل إلا بفتوى دينية!
هذا التبرير.. خطر لأنه يعيد تعريف الشرعية الثقافية بمعيار دينى. والحضارة المصرية القديمة لا تحتاج إلى شهادة توحيد كى نحتفى بها ونقدرها ونحترمها. قيمتها فى كونها تجربة إنسانية سبقت الحدود الزمنية والتاريخية للأديان. وهنا لا ندافع عن التاريخ لنبرئه، بل لننقذه من الجهل الحديث الذى يريد أن يختزله فى مقاييس الإيمان والكفر.
حضارة تحت الاختبار الدينى..
حين نرسخ فى وعى المواطن المصرى نفيه أنه يعبد الأوثان والأصنام.. كشرط الحصول على حق دخول المتحف، فلنعلم.. أننا عدنا إلى ألف سنة مضت.
لقد حولوا الحق فى الفخر الوطنى إلى اختبار دينى. وكأن الهوية لا تكتسب بالمواطنة، بل تمنح بموافقة رجال الدين. هذه هى المأساة الحقيقية، حينما يتحول التاريخ إلى امتحان إيمان، والمتحف إلى منبر دعوة، والجلابية إلى دليل على الصلاح أو الانحراف.
إن تديين النقاش بهذا المنطق.. لا يستهين بالمتحف فحسب، بل يستهين بفكرة الدولة المصرية الحديثة نفسها. الدولة المدنية لاتصنف أبناءها تحت مقصلة المؤمن والكافر، بل تعرف الجميع باعتبارهم مواطنين لهم حقوق. وعندما نحاكم الملابس أو التراث أو الفنون بمنطق الحلال والحرام، نكون قد أغلقنا الباب أمام الحضارة ذاتها التى ازدهرت فى ظل السؤال والحرية والاختلاف.
نقطة ومن أول السطر..
قضية «الجلابية فى المتحف».. أظهرت وجه الصراع الحقيقى فى مصر اليوم. أنه صراع بين دولة مدنية تحاول أن تنهض، ومجتمع يراد له أن يبقى أسيرًا لوصاية دينية وثقافة شكلية.
لا يستحق المتحف المصرى الكبير أن يختزل فى جدل شكلى أو دينى. هو مشروع وطنى يعيد ربط المواطن المصرى بذاكرته، ويؤكد أن مصر المدنية لا تخجل من ماضيها، ولا تحتاج إلى تبريره.
الحضارة لا تخص النخبة، بل تخص الإنسان الذى صنعها وورثها.
مصر لم تبن مجرد «متحف» فقط… بل استعادت روحها وبريقها الثقافى.
فى الدولة المدنية، التراث لايقاس بالإيمان والتقوى، بل بالإبداع والإنسانية.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" روز اليوسف "










0 تعليق