بالبلدي: هل يسقط جدار الردع؟

روز اليوسف 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

فى عالم يزداد اضطرابًا، تعود ظلال التهديد النووى لتخيم من جديد فوق المشهد الدولى، ومن طهران التى تقف عند عتبة «الاستعراض»، إلى واشنطن التى تلوح باستئناف «الاختبارات»، مرورًا بموسكو التى تربط مصير اتفاقية نيو ستارت بمسار حربها فى أوكرانيا، ينصت العالم من جديد لخطاب الردع النووى بعد عقود من الجمود.. وبينما تتسابق القوى الكبرى على تحديث ترساناتها، يتآكل نظام عالمى كبح هذا الجنون طوال نصف قرن، فهل تبدأ مرحلة جديدة من سباق التسلح النووى تحت غطاء “الأمن القومي”، أم أننا أمام إشارات انهيار منظومة ردع حافظت على السلم لعقود؟

استعراض القوة

على الرغم من أن إيران تؤكد أن برنامجها النووى «مدنى بحت»، إلا أن التطورات الأخيرة توحى بأنها تتجه لمسار أكثر حرفية نحو القدرات النووية. 

وتواجه الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) اليوم حقيقةً مؤلمة، إيران أصبحت تملك – بحسب تقريرها الصادر فى نهاية مايو 2025 – مخزونًا يقدر بـ 408.6 كج من اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى 60٪، أى ما يقربها مما يتطلبه صنع سلاح نووى. 

التقرير ذاته يشير إلى أن إيران، الدولة الوحيدة غير النووية، التى تنتج مثل هذا المستوى من التخصيب، وهو ما وصفته الوكالة بالأمر الذى يثير قلقًا جادًا. 

 

2d5cd2de63.jpg

 

 

ولا يقتصر الأمر على الكم، بل يمتد إلى القدرة التقنية، ففى تحليل لمركز الأبحاث (ISIS) تأكيدات إلى أن إيران قد تتمكن من إنتاج ما يكفى لعدة رءوس حرب نووية فى غضون أشهر إن عزمت على الأمر.

وفى تقارير صادرة عن مجلة «لو مونده» ما يشير إلى أن طهران أصبحت أقرب من أى وقت مضى لامتلاك قدرات نووية. 

من جهة الاستعراض، فقد أوضحت صحيفة الجارديان البريطانية، إلى أن طهران لجأت إلى ما يمكن وصفه بمنصات القوة النووية الرمزية، من خلال عروض للإمكانات والصواريخ التى يفترض أن تحمل رءوسًا نووية أو تكون جاهزة لذلك، هذا المزيج بين المظهر والقدرة يمثل رسالة متعددة المستويات، الأولى داخليًا لتعزيز شرعية النظام، والثانية إقليميًا للتعبير عن ردع محتمل ضد خصومها، خصوصًا إسرائيل، والثالثة دوليًا لرفع سعر التدخل الخارجى ضدها. 

وفى هذا السياق، فإن إعلان طهران استمرارها فى تخصيب الـ60 ٪، وإخلالها جزئيًا بتعاونها مع الوكالة، يعد تحولًا خطيرًا فى معادلات عدم الانتشار النووى.

لكن ثمة هشاشة ماثلة، فعلى الرغم من التقدم فى التخصيب، لا يزال الطريق نحو صناعة رأس نووى قابل للتوظيف مليئًا بالمناورات التقنية، والتوريدات المعقدة، والمراقبة الدولية. 

وإجمالًا، تبدو إيران اليوم كمختبر للدخول إلى نطاق ما بعد العتبة النووية، تستعرض قدراتها كأداة رمزية، قبل أن تتحول ربما إلى أداة فاعلة.

اختبار الردع

مشهدٌ آخر يتكون فى واشنطن، حيث أعلن الرئيس ترامب «وجهت وزارة الحرب بإعادة اختبار أسلحتنا النووية على أساس متساوٍ»، وذلك فى رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة للجمود فى مواجهة ما تتصوره «خروقات» من جانب منافسيها.

 

6c3be5fda6.jpg

 

 

هذا القرار يشكل تحولًا جذريًا فى السياسة الأمريكية، لسببين، الأول أن آخر اختبار نووى أمريكى تم عام 1992، والثانى أن واشنطن ظلت منذ عقود تمثل العمود الفقرى لمنظومة عدم الانتشار النووى التى أسستها بعد الحرب الباردة.

ومن منظور الاستراتيجية الأمريكية، يمكن قراءة الأمر كرسالة ردع موجهة إلى روسيا والصين ومعهما إيران، بأن الولايات المتحدة لن تقف متفرجة، لكن من منظور النظام الدولى فإن ما أعلنه ترامب يشكل انتكاسة محتملة لمنظومة الحد من التجارب النووية، والالتزامات التقليدية مثل معاهدة حظر التجارب النووية الشاملة.

ويحذر مركز الدراسات الخارجية (CFR) من أن الإعلان يضع الولايات المتحدة فى موقف قد تفرط فيه فى القيود أكثر من خصومها.

على المستوى التحليلى، يمكن القول إن تصريح دونالد ترامب يشعل شرارة سباق محتمل، بل “لحظة مفصلية” فى تاريخ السيطرة على الأسلحة النووية. 

 

d41b1266b0.jpg

 

 

خبراء مثل وودرو، ويلكنز من مشروع قضايا نووية فى مركز “CSIS” يرون أن إعلان ترامب يعيد تموضع الولايات المتحدة فى النظام العالمى تحت مبدأ لا عدول عن التفوق النووى، بل إعادة تفعيل أذرع الردع، لكنها تفعل ذلك عبر رسالة سياسية بالأساس، فى وقت لم يتضح بعد ما إذا كان الاختبار المقصود فيه تفجيرًا نوويًا، أو مجرد اختبار تقني

مفاوضات تحت القصف

تشكل معاهدة نيو ستارت (New START) بين الولايات المتحدة وروسيا آخر عقد حكومى جوهرى للحد من التسلح النووى، ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ فى 2011، وحددت سقوفًا لرءوس الصواريخ الاستراتيجية والمركبات الموجهة، لكن الحرب الروسية – الأوكرانية وأجواء التوتر مع الغرب دفعا موسكو إلى تعليق مشاركتها الفعلية فى المعاهدة فى فبراير 2023، رغم أنها لم تنسحب رسميًا. 

وفى تطور قد يدلل على استراتيجية موسكو، اقترحت روسيا تمديد المعاهدة لعام إضافى بعد انتهائها فى 5 فبراير 2026، بشرط عدم اتخاذ الولايات المتحدة خطوات تخل بتوازن الردع، وهو ما يبدو أن روسيا تستعمل المعاهدة كأداة تفاوضية، تربطها بملفات أعلى، مثل العقوبات وحرب أوكرانيا وإعادة هندسة التوازنات النووية. 

 

2d2c50930e.jpg

 

 

كما أن مسار التخلى أو التثبيت المؤقت يعكس أن النظام النووى الدولى قد دخل مرحلة «الشد والتراجع»، بدلًا من سياسة التقييد الواضحة، كما يوضح تقرير لمركز تشاتم هاوس.

ووفق تحليل لمعهد  europeanleadershipnetwork.org إعادة للتأكيد على أن روسيا تستغل المعاهدة كأداة ضغط تتفاوض بها على ملفات أعلى فى جدولها: الحرب فى أوكرانيا والعقوبات وتوازن القوى مع الغرب. 

وفى رأى خبراء فإن روسيا تعيد تصميم سياساتها النووية ليس باعتبارها أسلحة دمار شامل فقط، بل باعتبارها ورقة نفوذ،

وبالتالى فإن المشهد يتطلب قراءة مزدوجة: من ناحية هو استمرار لنظام السيطرة على الأسلحة النووية، ومن ناحية أخرى هو اختبار لمنطق “إذا تغيرت الظروف، فسنغير القواعد”. 

وإذا انهارت معاهدة نيو ستارت فعليًا، فإن العالم سينتقل إلى ما بعد السيطرة، حيث لا شفافية، ولا ثقة، ولا سقوف.

إلى أين؟

ترتبط التجارب الثلاث (إيران والولايات المتحدة وروسيا) بمجموعة عوامل تزامنت لتعيد إشعال ملف الأسلحة النووية:

- تغير التوازن الدولى: صعود الصين، واستعادة روسيا لنفوذها، وتحرك إيران الإقليمى، وتأكيد الولايات المتحدة على أنها لن تبقى متفرجة.

- تراجع منظومة ضبط الأسلحة بعد الحرب الباردة: تجارب من نوع معاهدة INF وغيرها، وغياب آليات فعالة للمراقبة، وهو ما جعل الغلاف الأخلاقى للمنع النووى أقل تماسكًا. 

- دمج الأمن الإقليمى بالطاقة النووية: فى الشرق الأوسط مثلًا، أصبحت القدرة النووية أداة استراتيجية، ليست فقط ردعًا أو تهديدًا، بل حتى ورقة تفاوض أو استعراض قوة.

- تطور التكنولوجيا وتحولاتها: أسلحة دقيقة، صواريخ مجردة، ذخائر تكتيكية، وكلها تغير الحسابات التقليدية للعتبة النووية.

- سياسات القادة والرسائل الرمزية: إعلان ترامب أو تحرك موسكو ليسا أحداثًا عشوائية، بل رسائل داخلية وخارجية – «نحن فى اللعبة الكبيرة».. «نحن جاهزون للمواجهة»

التبعات المحتملة 

من المنظور الإقليمى، فإن تصعيد إيران يسوق لمنطق «الردع النووى الإقليمي»: دول قد تفكر فى اتجاه النووى والتسلح به أو تتجه إلى استراتيجيات بديلة (سواء أقمار مراقبة، أو تحالفات نووية ضمنية، أو حتى خيار سباق تسلح). 

ومن المنظور الشامل، فإن استئناف الاختبارات الأمريكية أو إسقاط المعاهدة مع روسيا يعيد تشكيل البنية التى تمنع «سباقًا نوويًا مفتوحًا»، وربما نشهد:

- سباقًا جديدًا لتحديث أو نشر رءوس نووية، أو تطوير أسلحة تكتيكية/غير تقليدية.

- مزيدًا من انحسار آليات الشفافية والمراقبة، ما يزيد خطر سوء التقدير أو الحوادث النووية.

- ظهور «أعضاء جدد» (دول أقل قدرات تقليدية) يشعرون بأن خيار السلاح النووى قد يصبح مطروحًا أكثر.

- تضخم الإنفاق العسكرى النووى على حساب الخدمات المدنية – مما يضع استدامة اقتصادية تحت الضغط.

- انهيار أخلاقى أو رمزى فى نظام «عدم الانتشار» الذى تأسس بعد الحرب الباردة، وبالتالى تعزيز توجهات هستيرية أو مناهضة للنووى.

وأخيرًا، نحن اليوم على مفترق تاريخى: قوة إقليمية تعرض قدراتها النووية، وعملاق أمريكى أعاد النظر فى مسار السيطرة، وخصم روسى يستثمر النووى كأداة تفاوض. 

ما كان يعد بندًا من بنود الأمان العالمى (معاهدة، تجميد، اختبار، مراقبة) يبدو اليوم محاصرًا فى لعبة الشروط والمساومات.

 والسؤال الذى ينبغى أن يطرح اليوم ليس فقط هل سيحدث سباق نووي؟ بل ما هى الإدارة التى ستعجل بهذا السباق؟ وهل سيبقى تحت سقف العقلانية والدبلوماسية، أم ينزلق لقاع التفجّر العشوائي؟

إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"

المصدر :" روز اليوسف "

أخبار ذات صلة

0 تعليق

محطة التقنية مصر التقنية دليل بالبلدي اضف موقعك
  • adblock تم الكشف عن مانع الإعلانات

الإعلانات تساعدنا في تمويل موقعنا، فالمرجو تعطيل مانع الإعلانات وساعدنا في تقديم محتوى حصري لك. شكرًا لك على الدعم ??