لا تتوقف الكتابات عن تجديد الفكر الإسلامى، بعضها من أساتذة شريعة وحديث ودعاة، والتجديد فى الفكر الدينى «ضرورة حياتية»، لا يقل أهمية عن التجديد فى الفكر السياسى؛ مؤسّسات ومواطنين وسُلطات؛ خصوصًا فى مجتمع مثل مجتمعنا، تبدو فيه تصرفات الناس العامة والخاصة كما لو أنها محكومة بمفاهيم دينية، سواء كانت مفاهيم تتفق وصحيح الدين أو مفاهيم شعبية متوارثة تبتعد مسافات عن مقاصد الدين، وكلنا شاهدنا فيديوهات الليلة الكبيرة لمولد السيد البدوى فى طنطا، بما فيها من سلوكيات شعبية أثارت جدلاً عن علاقتها بالعقيدة الإسلامية كما وردت فى القرآن والسُّنة المؤكدة.
وأى مجتمع يبحث عن ثغرة فى جدار التخلف إلى عالم متقدم علميًا واقتصاديًا وسياسيًا وحضاريًا يلزمه حتمًا تجديد فكره الدينى، وتنقية مفاهيمه حتى يتجنب «الأسباب» التى تجعل ناسه يركنون إلى التواكل لا التوكل، يبادرون إلى السعى وإتقان العمل لا القعود والأداء الروتينى، يحترمون الطريق العام الذى إزالة الأذى عنه صدقة، لا الفوضى التى نمارسها فى كل شارع، فتشيع فينا قيم الدين الصحيحة التى لا نتبعها ولا نُلزم أنفسنا بها ونغلو فى مظاهرها فقط!
ويبذل كثرة من علماء الدين جهدًا محمودًا فى تأصيل فكرة التجديد، وأن الإسلام لا يقف حجر عثرة أمام المبتكر من الأفكار والظروف والأحداث التى تلاحق حياة الناس كل الوقت، لكنهم لم يشرحوا أبدًا «أسباب» ضعف انتشار هذه الرؤى المجددة، ولماذا ظلت الأفكار الجامدة هى صاحبة السيادة على العقل الجمعى، لا سيما عن المرأة والمواطنة والمخالفين فى الدين والخلافة.. إلخ؛ بل لم يفسروا كيف ظهرت الجماعات الدينية المتطرفة وتنظيماتها المسلحة وهى لا تمت لصحيح الدين بصِلة، ولماذا يتمسك مسلمون بأفكار ومفاهيم تخالف «الوسطية والاعتدال»؟
أتصور أن فشل محاولات التجديد العميقة منذ الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر فى ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى الآن، سببه الحرص الشعبى على الجمود الدينى، الذى يغذيه غالبية رجال دين، يحرسونه بكل ما يملكونه من طاقة وإصرار، ويناهضون أى أفكار لغيرهم فى التجديد والتفكير، تحت زعم أنهم هم المتمسكون بثوابت الدين القابضون على الجمر فى زمن تتفتت فيه المبادئ والقيم والأخلاق!
والمدهش أن كثيرًا من أصحاب العقل الجمعى السائد يدرسون علومًا حديثة كالطب والهندسة والكمبيوتر وغيرها، لكنهم أخذوا هذه العلوم ورجعوا إلى الماضى؛ ليرسخوا تفسيرات قديمة وأفكارًا قديمة، دون أن يحاولوا اختبار تلك التفسيرات والأفكار فى منهج مختلف عمّا ورثوه وألفوه.
باختصار؛ نريد إعادة فحص تراثنا الفقهى، أفكارًا وتفسيرات أكسبناها قداسة مع مرور الزمن، نريد قراءة هذا التراث بنظرة عصرية نقدية وفق مقاصد الشريعة الكلية؛ لنجفف منابع التعصب والتطرف، وإذا لم نفعل ستظل مفاهيم إنتاج جماعات الإرهاب والتكفير تطاردنا.
نعم بعض رجال الدين يتحدثون عن التجديد، يقولون كلامًا عامًّا، يقصدون به تحسين مفردات الخطاب الدينى بإضافة قدر من التسامح والرحمة والسلام والعدالة والتعاون مع الآخر المختلف معنا فى الدين.
قطعًا هذا لا يكفى، مطلوب إعادة القراءة والدراسة، لأقوال كثيرة منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وتفسيرات لآيات قرآنية فهمها مفسرون وآئمة وشيوخ ودعاة بطريقتهم، نريد عملية تمحيص وتنقية وفق منهج علمى كالمناهج المعمول بها فى الدراسات الإنسانية والاجتماعية، وداخل مقاصد الإسلام وهى معروفة.
قطعًا هذه عملية أشمل وأهم، يستحيل أن ينفرد بها نفرٌ من رجال الدين؛ لأن معظم الدارسين فى المعاهد الدينية يركزون بالدرجة الأولى على علوم القرآن والسُّنة والسيرة والمذاهب الفقهية، وهى علوم تأخذ من بعضها البعض نقلاً وحفظا، فظلت الأفكار تدور حول نفسها، أو فى دوائر متشابهة دون إحداث نقلة فكرية كبيرة فى فهم النصوص ومراجعة التراث بعقلية ناقدة محللة، يحكمها السؤال الصحيح وليس الإجابات المطلقة، والسؤال الصحيح هو أصل المعرفة، ولنا مثال فى سيرة أبى الأنبياء إبراهيم، فحين سأل نفسه سؤالاً صحيحًا، عرف الطريق إلى الله..
وأغلب أستاذة المعاهد الدينية الذين يتحدثون عن تجديد الفكر لا يسألون الأسئلة الصحيحة؛ وإنما يسألون الأسئلة التى تحافظ على القديم وتحتفظ به وتقويه، ثم يضيفون قليلاً من المحسنات اللفظية التى لا تشق طريقًا إلى العصر، ولا تنير عقول المتشدّدين والمتعصبين وجماعات العنف، لهذا ظلت الأفكار المتعصبة العنيفة ممتدة فى الزمن والعقول.
ودعونى أضرب لكم مثالين، عن تجديد الخطاب الدينى، الأول لرجل دين شعبى، والآخر لعالم متخرج من جامعة الأزهر، وقد اتفقا على شىء واحد وهو «أن تجديد الخطاب الدينى مقصود به ضرب السُّنة النبوية وهدم القرآن»، ثم سار كل منهما فى دربه حسب دراسته وثقافته العامة والخاصة..
الداعية الأول قال إن أعداء الإسلام من أبنائه، باعتبار أن الداعين إلى تجديد الخطاب الدينى هم أصلاً من المسلمين، ثم حدد ثلاثة من هؤلاء الأعداء، هم: القرآنيون والعلمانيون وشيوخ السراديب.. بالطبع لم أعثر على تعريف أو تحديد لـ«شيوخ السراديب»، لكنه وصف مثير للغاية.. ثم عرج إلى لب الموضوع حسب تصوره، وهو علاقة الرجل والمرأة، العلاقة التى تمثل دملاً فى عقل «الشرق» عامّة، ووجعًا فى أعصاب أغلب رجاله.. كما لو أن الدين أُنزل خصيصًا لهذه العلاقة..
قال الداعية الشعبى: من مصلحة المرأة المسلمة أن تتحجب لأن الرجل لمّا يخرج من بيته ويشوف ست غير محجبة سوف يمعن النظر إليها، ويعقد مقارنة بينها وبين امرأته فى البيت، الست فى الشارع ما شاء الله برفان ومكياج، والست فى البيت طبيخ ورائحة بصل وثوم، فالمقارنة ظالمة.. وهنا يتدخل الشيطان، لكن لو الرجل خرج ولقى كل الستات فى الشارع محجبات لن تكون هناك مشكلة على الإطلاق، وعمومًا تعليق صور الزواج فى الصالون حرام والتماثيل محرمة.
يا الله.. تخيلوا إنه يقول إن الحجاب فُرض من أجل حماية الرجل من وسوسة الشيطان، كما لو أن الرجل يرفع غريزته المستعرة على كاهله ويمشى بها فى الطرقات، فيسقط فى الخطيئة مع أول فرصة متاحة، والحل أن نجبره على محاسن الأخلاق بإغلاق كل سُبُل الوسوسة أمامه، كى يدخل الجنة دون أى جهد منه!
الآخر دارس وباحث يقفز مباشرة إلى قلب النهر، إلى مصطلح تجديد الخطاب الدينى ويقول إنه يجرى على ألسنة أدعياء التنوير وأقلامهم، والتقدميين من الليبراليين والعلمانيين والتغريبيين ومن لف لفهم من عبيد الفكر الغربى، وهدفهم: «تغيير ثوابت الدين الإسلامى وأصوله، وهدم قيمه ومبادئه؛ ليستبدلوا بها أخرى محرفة».
عريضة اتهامات، دون أن يوضح: هل هناك من دعاة تجديد الخطاب الدينى من أنكر أو طلب تعديل ثوابت الإسلام من شهادة وصلاة وصوم وزكاة وحج للقادرين؟، هل منهم من أحل الزنا والقمار والسرقة والقتل والكذب وأكل مال اليتامى..إلخ؟
ثم يطرح الشيخ الدارس بديلاً وهو: «تحديث وسائل الدعوة إلى الإسلام، والتجديد فيها، أو بيان حكم الإسلام فى النوازل المستجدة، أو تنـزيل الحكم الشرعى على الواقع المعاش، أو مراجعة التراث الفقهى مراجعة استفادة وتمحيص، وتقريب الفقه للناس وتيسيره».
باختصار؛ يدعونا إلى إعادة الدوران فى نفس الأفكار القديمة لكن بألفاظ عصرية، كما لو أن الأزمة فى الألفاظ وليس فى بعض تفسيرات وأحكام صادرة من «بشر مثلنا» حسب زمنهم وثقافتهم وسعة أفقهم والعلوم التى كانت متاحة لهم وقتها.
إنها معركة فكرية طويلة وصعبة، وإذا ظلت الأفكار القديمة مسيطرة فالمستقبل غامض والإرهاب باسْم الدين سيظل سيفًا مسلطا على فرصة خروجنا من التخلف.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" روز اليوسف "













0 تعليق