بالبلدي: الهستيريا الرقمية.. وسقوط القيم !

almessa 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بقلم : د.لمياء محسن (دكتوراة الإذاعة والتليفزيون ـ كلية الإعلام جامعة القاهرة)

هناك لحظة فارقة نعيشها اليوم دون أن نملك شجاعة الاعتراف بها.

لحظة لم يعد فيها الإنسان يرى العالم كما كان، ولا يتعامل مع الآخرين كما ينبغي، ولا يحفظ من نفسه ما كان يعتبره يومًا خطوطًا حمراء. لحظة يمكن أن نسمّيها ببساطة: الهستيريا الرقمية.

لم تعد المشكلة في التكنولوجيا نفسها، ولا في منصات التواصل، ولا في المحتوى. المشكلة بدأت حين تحوّل كل شيء إلى سباق على الظهور، وحين أصبح التريند هو الحكم الأعلى على معنى الأشياء وقيمتها.

وبينما كان الجميع ينظر إلى الضوء، كانت هناك “أشياء أخرى” تتساقط منّا… واحدة تلو الأخرى.

سقوط الستر من الوعي العام

كان الستر قيمة تُمارَس قبل أن تُقال. قيمة يعرفها الطفل قبل أن يتعلمها في المدرسة.

لكن مع تصاعد الهستيريا الرقمية، أصبح الستر شيئًا يمكن التخلي عنه في لحظة، إذا كان الثمن “لقطة” تشعل التفاعل. لم يعد أحد يتردد قبل نشر صورة تمسّ حياة شخص، أو مشاركة فيديو يهدر كرامة إنسان،أو كتابة تعليق جارح قد يُنهي مستقبل فرد أو يُدمّر بيته.

صار السؤال: هل سيحقق هذا انتشارًا؟

وليس: هل هذا يرضي الله؟ هل يرضي ضميري؟ هل يؤذي أحدًا؟.

وهذا وحده كافٍ لفهم حجم السقوط الذي نعيشه.

اختفاء الحدود… واختفاء الحسّ

الحدود التي تربينا عليها ـ حدود الاحترام، والخصوصية، وعدم التدخل، وعدم الحكم ‘ كانت تشكّل الإطار الأخلاقي للمجتمع. كانت تمنح لكل إنسان مساحة أمان، ومساحة ستر، ومساحة كرامة.

لكن اليوم، أصبحت حياة الناس كتابًا مفتوحًا، وخصوصياتهم مشاعًا عامًا، وكرامتهم قابلة للمساومة أمام تعليق أو صورة أو تسريب. صار من السهل أن يتلصص شخص على حياتك، ويشاركها دون إذنك،

ويحكم عليك دون معرفة، ويحوّل ألمك إلى مادة محتوى.

والأخطر أن المجتمع لم يعد يرتجف عند هذه الممارسات… كأن الحسّ الداخلي قد انطفأ.

الهستيريا الرقمية وصناعة القسوة

الهستيريا الرقمية ليست مجرد اندفاع، بل حالة جماعية من فقدان البصيرة. حالة يصبح فيها الضجيج أعلى من الضمير، والتفاعل أهم من الحقيقة، والظهور أقوى من الرحمة.

إنها حالة تُنتج قسوة غير مقصودة أحيانًا، لكنها حقيقية ومروّعة. قساوة تجعل الإنسان يتعامل مع الآخر كصورة، وليس كروح. كسطر، وليس كحياة كاملة خلف الشاشة.

لقد أصبحنا نرى إنسانًا يُهان، ونمرّ مرور العابرين.

نسمع بفضيحة، فنسأل عن التفاصيل لا عن الوجع.

نشاهد سقوطًا، فنتعامل معه كأننا نشاهد مسلسلًا لا يمتّ بصلة للواقع.

وهكذا… تتحول القلوب إلى شاشات هي الأخرى.

ماذا خسرنا؟

لم نخسر التكنولوجيا … خسرنا أنفسنا.

خسرنا الخوف من الله قبل نشر كلمة.

خسرنا الرحمة التي كانت تُمهلنا قبل الحكم على الآخرين.

خسرنا صوت الضمير الذي كان يقول: “توقف، هذا ليس لك”.

خسرنا شعور الستر… ذلك الشعور الذي كان يجعلنا نتعامل مع حياة الآخرين كأمانة، لا كتريند.

هذه ليست خسارات صغيرة. هذه خسارات تبني مستقبلًا مُظلِمًا.

إلى أين نذهب؟

حين يصبح الإنسان نفسه مادة محتوى، وحين تسقط القيم تحت أقدام التفاعل، وحين يتساوى العيب بالعلن، والحرام باللقطة، فنحن أمام طريق لا يؤدي إلا إلى فقدان كل ما هو إنساني.

المستقبل لا يُبشّر بخير إذا بقيت القلوب بلا حدود، والعقول بلا بصيرة، والضمائر بلا حضور.

ومع ذلك.. ما زال هناك ضوء صغير. ضوء يبدأ بسؤال واحد:

هل نريد أن نعيش في عالم يقوده التريند… أم عالم يقوده الضمير؟.

هذا السؤال، إن امتلكنا شجاعة الإجابة عنه، قد يكون أول خطوة لاستعادة ما سقط منا في الطريق.

إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"

المصدر :" almessa "

أخبار ذات صلة

0 تعليق

محطة التقنية مصر التقنية دليل بالبلدي اضف موقعك
  • adblock تم الكشف عن مانع الإعلانات

الإعلانات تساعدنا في تمويل موقعنا، فالمرجو تعطيل مانع الإعلانات وساعدنا في تقديم محتوى حصري لك. شكرًا لك على الدعم ??