.الأسبوع الماضى، كنتُ أبحث عن مَشاهد وصور تُعَبّر عن واقع ارتباط الشعب المصرى بهويته وحضارته، فى مواجهة أفكار «ضالة» خرجت من أبواق فئات من «أهل الشر»؛ لتحريم أو تكفير «الآثار»؛ تزامنًا مع الزَّخَم العالمى الذى صاحَب افتتاح المتُحَف المصرى الكبير.
كانت من بين الأفكار التى راودتنى، مثلاً، لماذا لم نشاهد «أزهريين» أو «أئمة من وزارة الأوقاف» وهم يتفقدون «الكنوز الأثرية» التى يحتويها المتُحَف الكبير؟، كمَشهد شديد البلاغة، يمكن أن يُعَبر عن حقيقة موقف المؤسَّسة الدينية الرسمية، تجاه «أفكار أهل الشر»، وكفيل لتصدير صورة تعكس مدى تقدير الإسلام والأديان للتراث الحضارى المصرى.
تصورت أن مَشهدًا أو صورة كهذه، (أزهرى يتفقد آثار المتُحَف)، كفيلة لتقديم رسالة بألف معنى لدعاة تحريم الآثار؛ من سلفيين ومتطرفين، يمكن أن يعيها ويفهمها الجميع، قبل تقصى الحُجَج الفكرية والفقهية التى تستند إليها المؤسَّسة الدينية فى دحض مثل هذه الآراء.
والغرض هنا؛ هو التصدى لمِثل هذه السموم الفكرية حتى لا نجد لها صدًى داخل المجتمع؛ فقد كانت تلك الغاية التى دفعتنا للمواجهة فى عدد «المَجلة» الأسبوع الماضى، الذى جاء غلافه مُعَبرًا عن هذا الاشتباك، بعنوان «الآثار ليست أصنامًا»، كمحاولة لإيقاف «تفلسف وتزلف» مروجى هذه الآراء والأفكار، فهذه واحدة من معارك «روزاليوسف» الممتدة على مدار مائة عام، (معركة التطرُّف والتشدُّد الدينى).
والواقع أننا لم ننتظر كثيرًا، فى مواجهة هذا «التفلسف»، ذلك أن الرد جاء مفاجئًا، نافذًا، ومُعَبرًا عن كل المعانى، لا سيما أنه جاء من الشعب المصرى نفسه، حينما توافد الآلاف من المصريين على المتُحَف المصرى الكبير ومنطقة الأهرامات، فى مشهد مهيب، يُجسّد اختيار الشعب لهويته، وينتصر لها.
فاجأنى رد المصريين، كما فاجأ الجميع، ذلك أنه انتصر لهويته، فى مواجهة «آراء طيور الظلام»؛ فقد كان مشهد دخول الناس إلى المتُحَف أفواجًا عابرًا لكل الحُجَج، بما فى ذلك مقترح تفَقُّد «أزهريين» لآثار المتُحَف؛ طاغيًا بمعانيه ورسائله، مؤكدًا أن «الشعب يريد هويته المصرية ويتمسك بها».
هذا هو المعنَى والدرس الذى رأيته فى التوافد غير المُتَوقع من المصريين لمُشاهدة تراث أجدادهم؛ للحد الذى كسَر فيه المتُحَف الكبير، سِعته التشغيلية، فى الإجازة الأسبوعية الأولى بعد افتتاحه، بعدد زوار تخطى 50 ألفًا فى يوم واحد.. والرسالة هنا ليست فقط فى حَجم الحشود، بقدر ما تعكسه من درجة الوعى الشعبى، فى مواجهة الأفكار الشاذة عليه، وأى محاولات لسَلبه هويته.
المواجهة الحتمية
جاء الرَّد والاختيار من الشعب المصرى نفسه؛ لهويته المصرية، فانتصر لها، غير أن ذلك لا يُغنى عن أن الحديث عن مواجهة «تفلسُف» السلفيين ومَن على شاكلتهم، فى مسألة تحريم الأُثر؛ لا تتم إلا بالحُجَّة والمنطق؛ لدحض هذه الآراء المسمومة، والأهم كيفية تقديم الحُجَّة الصحيحة بصيغة يعيها الجميع؛ خصوصًا البسطاء من عامة الشعب.
حينما اشتبكت «روزاليوسف» الأسبوع الماضى مع هذه الدعوات، بالتأكيد فى غلافها على أن «الآثار ليست أصنامًا»، كانت تستند فى ذلك إلى رأى «المؤسَّسة الدينية الرسمية»، التى أصدرت دليلاً لتصحيح المفاهيم المغلوطة من جماعات وتنظيمات التشدد والتطرف الفكرى، فيما يتعلق بتقدير «الآثار والتراث الحضارى».
وهذه مواجهة ممتدة لا تتوقف، ذلك أن هذه «المَجلة» دائمًا ما كانت منصة للتنوير والفكر، ومواجهة كل دعوات الغلو؛ فقد كانت دائمًا فى طليعة المواجهة ضد التطرف فى الدين، أو الاتجار به، أو ادّعاء بعض الناس فى كثير من الأوقات أنهم أوصياء على المصريين باسْم الدين.
هكذا وقفت بصلابة، فى العام الأول من صدورها، فى وجه ما سُمِّى بـ«جبهة المشايخ»، على إثر جدل صدور كتاب الدكتور طه حسين، «فى الشعر الجاهلى»، فى أبريل 1926؛ حيث كانت المَجلة حاضرة وبقوة سياسيًا وفكريًا، فى مواجهة حملة «تنظيم المشايخ» الموالى للقصر المَلكى وقتها، ضد الكتاب زعمًا أنه يخالف «النص القرآنى».. ثم واصلت «المَجلة» موقفها الثابت فى مواجهة التطرف فى الدين، ضد «تنظيم الإخوان» وأفكاره، والجماعات الجهادية والأصولية التى خرجت من رحمه، وكانت فى طليعة المواجهة مع إرهاب هذه التنظيمات فى فترة التسعينيات، مع مجابهة وفضح ما يُسَمى بـ«الدعاة الجُدُد» وآراء السلفيين.
وإذا كنا نتحدث عن مواجهة مع آراء نِشاز، تتحدث عن تحريم زيارة الآثار؛ زعمًا أنها «أصنام وأوثان»، فالواقع أنها ليست حديثة الترويج، ذلك أنها سبق أن صدرت من بعض «المتفلسفين» فى الدين؛ خصوصًا من السلفيين، فى أوقات سابقة، ولا تختلف فى نشوزها، مَثلاً، عن رأيهم فى «تحريم التصوير الفوتوغرافى»، وإعادة بث هذه الأفكار تزامنًا مع افتتاح صرح حضارى بحجم المتُحَف المصرى الكبير؛ ما هى إلا انعكاس لاستمرار محاولات وحملات مروجيها؛ لطمس الهوية المصرية الحضارية، بهويتهم المتطرفة.. هكذا يحاولون كما حاولت الإخوان قبل ثورة 30 يونيو، وجاء الرّد كالعادة من الشعب المصرى.
والمواجهة هنا لا يمكن التساهل فيها، فالمسألة ليست رأيًا عابرًا؛ وإنما هى نذير خطر، من تيار يناصب الكراهية ضد «الهوية المصرية»، والحضارة المصرية القديمة، ولنا فى تجارب المعاصرين عِبرة؛ فقد شاهَدنا، كيف فعلت «طالبان» فى أفغانستان مع تمثال «بوذا» حينما قامت بتفجيره، والأمر ذاته، فعله تنظيم «داعش» الإرهابى فى سوريا، بتدمير المواقع الأثرية والتراثية هناك، وكلها ممارسات لا نستطيع فصلها عن غايات «العدو»، فى طمس هوية أى مَعلم حضارى.
الآثار ليست أصنامًا
وفى سبيل تفنيد هذه الآراء بالحُجّة والمنطق، حسنًا فعلت وزارة الأوقاف، بما أصدرته الأسبوع الماضى من إفادة لتصحيح هذه المفاهيم المغلوطة، بعنوان «الآثارُ ليستْ أصنامًا.. حكمُ التعامُلِ مع إرثِ الأمم»، وفيها أشارت إلى أن «ما بقى من آثار الأمم السالفة التى باد أهلها ليست بموضع عبادة ولا تقديس؛ إنما هى شواهد على تعاقُب الدهور ومجارى العِبَر».
وواجهت «الأوقاف» حُجَج «المتفلسفين» التى تُشَبِّه الآثارَ بأصنام الجاهلية، بالتأكيد على أن «قياس آثار الأمم، على أصنام الجاهلية، قياس فاسد».. وأشارت إلى أن الصحابة والتابعين فتحوا الأمصار، ورأوا آثارَ الفراعنة والبابليين والفُرس، فلم يطمسوها؛ إذ علموا أن «الإسلام جاء ليهدم الوثنية فى القلوب لا فى الحجارة».
وقالت فى نفس الوقت، إنه «مَن لم يفقه هذا المعنى الروحى العميق للإسلام جعل الدين معولاً لهدم الحضارة لا لبناء الإنسان، وخلط بين عبادة الله وتأمُّل آياته فى التاريخ والعمران»، وإذا كان «الغلاةُ» فى الفكر والرأى، يرون فى حَجَر أملس صنمًا يجب تحطيمه، يدرك الراسخون فى العِلم أنَّ الإيمان نورٌ يُطهرُ القلب، فغايته بناءُ الوعى لا هدمُ الآثار، والتاريخُ شاهدٌ لا معبود».
وفى سبيل تفعيل وتأثير المواجهة، مع الآراء النشاز؛ يجب ألاّ نكتفى بتداول موقف «المؤسَّسة الدينية» إعلاميًا؛ بل يجب أن تتسع دائرة الحركة، بممارسات ميدانية، تترجم هذا الرأى والتقدير الدينى للآثار، من بينها- كما أشرنا- زيارات «للأئمة والأزهريين» إلى المتاحف وتراثنا الحضارى، والتوعية بأهميته، إلى جانب إنتاج محتوى رقمى، بالحكم الدينى فى التعامل مع إرث الأمم، وتوسيع دائرة انتشاره على منصات التواصل الاجتماعى، والهدف هنا، توسيع دائرة التأثير لتشمل شرائح المجتمع كافة.
الرد فى الصندوق
فى نفس الأسبوع الذى، انتصر فيه المصريون لهويتهم، على «دعوات الظلام»، قدَّموا فيه أيضًا رَدًا على دعوات التحريض التى لا تتوقف، ومحاولات إثارة الفتن الداخلية، بمشاركة «معتبرة» فى التصويت بانتخابات مجلس النواب، فى مرحلتها الأولى، التى أجريت الأسبوع الماضى فى 14 محافظة، تعكس مدى وعى وإدراك المصريين وتفاعلهم الإيجابى مع الشأن العام الداخلى.
ولا أتوقف هنا، عند الهندسة السياسية لهذه الانتخابات، ومستوى التفاعل الشعبى معها، بقدر الحديث عن معانى المشهد الانتخابى نفسه؛ خصوصًا مع ما أثاره البعض عنها، بأنها تفتقد للتنافسية، أو أن هناك عزوفًا عن المشاركة فيها، للحد الذى ادّعى فيه أحد المختصين سياسيًا، فى مقال رأى له، الأسبوع الماضى، أنها «تشبه الانتخابات»!
والواقع الذى نريد أن نسجله هنا، ليس من سبيل الدفاع أو تجميل الصورة؛ وإنما حقائق تستحق أن تروى، عن هذا الاستحقاق الانتخابى، والظرف السياسى والإقليمى الذى يجرى فيه، ودلالاته السياسية، وهو ما يمكن تأطيره فى النقاط التالية:
- أولًا: أن انتخابات مجلس النواب 2025، هى عاشر استحقاق انتخابى تجريه الدولة المصرية منذ ثورة 30 يونيو 2013، حتى الآن، ما بين استفتائين للدستور، وثلاثة انتخابات رئاسية، واستحقاقين انتخابيين لمجلس الشيوخ، وثلاثة انتخابات لمجلس النواب، وهذا فى حد ذاته انعكاس صريح؛ لاستقرار سياسى داخلى، للنظام السياسى المصرى، فهكذا تُقاس صلابة ورسوخ النظم السياسية، بتواصل ممارسة الديمقراطية والمشاركة السياسية، عَبْرَ الآليات الديمقراطية (الانتخاب)، والحفاظ على استقرار وصمود مؤسّساته الدستورية.
والثابت؛ أن الدولة المصرية، تحافظ على إجراء الاستحقاقات الانتخابية، فى مواعيدها الدستورية، رغم ما يحيط بها من تحديات أمنية وسياسية واقتصادية، على وقع اضطرابات الإقليم التى لا تتوقف، وتوترات وأزمات دول الجوار المباشر لها، مثل ما يحدث فى غزة والسودان وليبيا، وغيرها.. والمعنى هنا، فى الحرص على استقرار المؤسَّسات الوطنية، فى وقت لم تشهد فيه كثير من دول الجوار انتخابات على مدى أكثر من 15 عامًا.
- ثانيًا: الحديث أن الانتخابات تفتقد للتنافسية، يستند فيه مروجوه إلى أن هناك قائمة واحدة، وهى «القائمة الوطنية»، تخوض المنافسة على مقاعد القوائم بالانتخابات، وواقع الأمر أن إدارة المنظومة الانتخابية، لم تمنع أى تيار أو حزب سياسى، أيًا كان توجُّهه السياسى، مواليًا أو معارضًا، من الترشح فى الانتخابات؛ بل إن الهيئة الوطنية للانتخابات، استبعدت 3 قوائم تقدمت بأوراق ترشحها لعدم استيفائها الأوراق المطلوب إرفاقها مع طلب الترشح، وهى «الجيل- القائمة الشعبية صوتك لمصر- نداء مصر».
وبالتالى؛ فإن المسئولية هنا، لا تقع على جهة التنظيم؛ وإنما على القوَى السياسية نفسها، التى من المفترض أن تُعَبر عن حضورها وتواجُدها فى الشارع، فى مناسبة مثل الانتخابات.
- ثالثًا: إن الحضور الحزبى فى الانتخابات، ربما يفوق الاستحقاقات البرلمانية السابقة، بالنظر إلى عدد الأحزاب التى تنافس بمرشحين، فى المقاعد الفردية والقوائم، فمن بين 89 حزبًا سياسيًا مُشهرًا فى مصر، هناك أكثر من 30 حزبًا ينافس بالانتخابات، على المقاعد الفردية والقوائم.
وتشمل خريطة المشاركة، أكثر من 12 حزبًا وكيانًا سياسيًا، لديهم مرشحون فى «القائمة الوطنية»، إلى جانب أحزاب أخرى غير ممثلة فى القائمة، تنافس على مقاعد فردية بالمحافظات إلى جانب المستقلين، وهى خريطة تشير إلى احتمالية زيادة نسبة الأحزاب الممثلة فى البرلمان، عن برلمان 2020، الذى شهد تمثيلاً لنحو 12 حزبًا، بأكثرية وصلت لأكثر من 79% من مقاعد مجلس النواب، بعد أن كانت الأكثرية للمستقلين فى انتخابات 2015، بنسبة تتجاوز 57 %.
- رابعًا: إن نسب الترشيح فى الانتخابات الحالية أقل من نسبته فى الاستحقاقين الماضيين، ذلك أن عدد المرشحين على المقاعد الفردية، وصل إلى 2597 مرشحًا، فى مقابل 4530 مرشحًا فى انتخابات 2020، فى حين ترشح 5432 مرشحًا بانتخابات 2015.. والمعنى أن هناك معادلة عكسية بين زيادة عدد الناخبين وعدد المرشحين فى الانتخابات.
- خامسًا: إنه من المبكر الحديث عن نسب المشاركة وتحليلها، التى لا تكون إلاّ بعد انتهاء الانتخابات بشكل كامل فى الخامس والعشرين من ديسمبر المقبل، غير أن نسب المشاركة غير المسبوقة فى انتخابات الرئاسة 2024، التى زادت على 66 %، إلى جانب ارتفاع معدل المشاركة فى انتخابات مجلس الشيوخ الماضية إلى 17%، عن الانتخابات السابقة لها التى كانت (14%)، قد تؤشر إلى تزايُد معدلات المشاركة فى الانتخابات الحالية، بالمقارنة بانتخابات 2020.
والخلاصة: أن الشعب المصرى، بمواقفه الصلبة، قدّم مرة أخرى رسالة بعِلم الوصول، لكل مَن يريد طمس هويته الحضارية؛ بأنه لن يقبل بغير هويته المصرية، ولا يزال أيضًا يثبت لدعاة التحريض؛ أنه أكثر وعيًا وإدراكًا مما يخططون ويعبثون.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" روز اليوسف "













0 تعليق