تتصاعد نيران الفوضَى فى قلب غرب إفريقيا وتحديدًا فى مالى، الدولة التى كانت تُعرَف يومًا بـ«أرض الذهب والنيل الأسود»، لم يعد ذهبها يلمع، بينما يجرى نيلها شاهدًا على الحرائق والانفجارات والخوف الذى يسيطر على الطرقات والمدن النائية التى تحكمها الجماعات المتشدّدة بالحديد والنار.
البلاد الغنية بالتاريخ والثقافة باتت نموذجًا مؤلمًا لانهيار الدولة حين تُترَك وحيدة أمام تنظيمات إرهابية مسلحة، وعلى رأسها تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى، الذى بسط نفوذه تدريجيًا، حتى صار يهدد العاصمة باماكو نفسها.
بدأت ملامح الانفجار فى عام 2012، عندما تمردت حركات الطوارق فى شمال البلاد مطالبة بالحكم الذاتى، وسرعان ما تسللت الجماعات الجهادية إلى المشهد، مستغلة الفراغ الأمنى والسياسى.
ورغم توقيع اتفاق الجزائر فى 2015 بين الحكومة المركزية والفصائل المتمردة؛ فإنه لم يُنفذ فعليًا، وتوسع المجال أمام تمدُّد القاعدة وفروعها.
اليوم، وبعد أكثر من عقد من الصراع، صارت مالى مسرحًا لصراع معقّد يجمع بين الانفصاليين والمتشدّدين والعسكريين، الذين استولوا على الحكم بعد سلسلة من الانقلابات.
الجماعة الأكثر نفوذًا فى البلاد هى «نصرة الإسلام والمسلمين» (JNIM) الموالية لتنظيم القاعدة، وهى تُسيطر على مساحات شاسعة فى الشمال والوسط وتفرض ضرائب على المدنيين، وتتحكم فى خطوط الإمداد الحيوية التى تنقل الوقود والمواد الغذائية إلى العاصمة.
وفى الأسابيع الأخيرة، شنّت الجماعة سلسلة هجمات استهدفت قوافل الوقود، وهو ما تسبَّب فى أزمة خانقة شلّت الحياة الاقتصادية وأغلقت المدارس والمستشفيات.
وفرضت الجماعة حصارًا اقتصاديًا على العاصمة باماكو من خلال استهداف قوافل الإمداد القادمة من السنغال وكوت ديفوار، وأسفر ذلك عن انقطاع التموين وشلل فى وسائل النقل العام.
فى ظل هذا الوضع الأمنى المتأزم، صدرت تحذيرات متتالية من عواصم غربية لرعاياها فى مالى، ودعت فرنسا، والولايات المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا وأستراليا مواطنيها للمغادرة الفورية بسبب تدهور الأوضاع الأمنية، حتى داخل العاصمة باماكو.
الخطف
فى ظل تراجُع نفوذ الدولة وتفكك الأجهزة الأمنية، أصبحت عمليات الاختطاف وسيلة رئيسية للجماعات المسلحة لجمع الفدية وتمويل نشاطها.
وتشير التقارير الدولية إلى أن الجماعات التابعة للقاعدة قامت خلال العام الحالى بخطف عشرات الأجانب من عمال الإغاثة، والتجار والسائقين.
آخر تلك الحوادث كانت اختطاف ثلاثة مصريين يعملون فى قطاع النقل قرب منطقة «غاو» شمال البلاد، واحتجزتهم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وطالبت بفدية مالية مقابل الإفراج عنهم.
وأثارت حادثة اختطاف المصريين الثلاثة قلقًا كبيرًا فى القاهرة، وأعلنت وزارة الخارجية المصرية أنها تتابع الملف عن كثب، وتُنسّق مع السلطات المالية والمنظمات الإفريقية للإفراج عن المواطنين المختطفين.
سجلت مالى فى الأشهر الأخيرة حوادث اختطاف مماثلة تستهدف جنسيات مختلفة، مع طلب فدية، ومؤخرًا اختطف مسلحون 5 هنود يعملون فى مشروع كهرباء قرب كوبرى غربىّ باماكو، بينما أفادت تقارير باختطاف 4 صينيين فى مناطق تعدين «كايس» منذ يوليو الماضى، بالإضافة إلى إيرانى واحد قرب باماكو فى سبتمبر.
كما تم اختطاف مبشر أمريكى فى نيامى عاصمة النيجر فى أكتوبر الماضى، وهو ما يرفع إجمالى عمليات الاختطاف الأجنبى فى منطقة الساحل إلى أكثر من 23 حالة هذا العام، مع مطالبات بفدية وصلت إلى عشرات الملايين من الدولارات.
إعدام ناشطة
وفى السياق المضطرب أعدم مسلحون فى شمال مالى الناشطة على منصة «تيك توك» مريم سيسيه، عقب اتهامها بالتعاون مع الجيش.
وكانت «سيسيه» التى يتابعها نحو 90 ألف شخص، تنشر مقاطع عن حياتها اليومية فى مدينة تونكا بمنطقة تمبكتو.
وأثار خبر مقتلها صدمة واسعة فى أوساط السكان، فى وقت تعيش فيه مالى منذ عام 2012 على وقع النزاعات المسلحة التى تقودها جماعات مرتبطة بتنظيم القاعدة ضد المجلس العسكرى الحاكم.
بيانات بلا أثر
الاتحاد الإفريقى أصدر مؤخرًا بيانًا يطالب بتحرك عاجل لوقف تمدُّد الجماعات الإرهابية، فيما دعت الأمم المتحدة إلى «حوار شامل» لحل الأزمة.
وعلى أرض الواقع، تبدو تلك الدعوات بلا أثر يُذكر؛ وبخاصة بعد انسحاب قوات حفظ السلام الأممية (مينوسما) العام الماضى، ما ترك فراغًا أمنيًا كبيرًا استغلته القاعدة بذكاء لتوسيع سيطرتها.
أمّا الدول الغربية؛ فمعظمها خفّض وجودَه العسكرى بعد الخلافات مع الحكومة العسكرية فى باماكو، واتجهت الأخيرة للتعاون مع قوات روسية خاصة (فاغنر)، وهو ما زاد من تعقيد المشهد.
سيناريوهات متوقعة
ينذر الوضع فى مالى بانفجار أكبر، فمع ضعف الدولة وغياب المؤسّسات الفاعلة، باتت مالى على حافة أن تصبح أول دولة إفريقية يحكمها تنظيم القاعدة فعليًا.
وبعدما تمكنت الجماعات المسلحة من فرض حصار على العاصمة؛ فإن ذلك يدفع إلى سيناريوهين، أحدهما حدوث انقلاب داخل المؤسّسة العسكرية لتخليص البلاد من النخبة الحاكمة، ما يؤدى لإحياء التعاون مع المجتمع الدولى دون الاعتماد على طرف معين، مثل روسيا؛ لمحاربة تلك الجماعات.
والسيناريو الثانى، هو أن يحاول النظام الحالى تغيير سياساته الخارجية والاستعانة بدول أخرى لإيقاف زحف تنظيم القاعدة، لاسيما دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)؛ خصوصًا أن تلك الدول تدرك أن السماح لـ «القاعدة» بالسيطرة على مالى قد يسمح للتنظيم بمحاولة التوسع فى مناطق أخرى، والسيطرة على مكاسب ومدخرات أنظمة داخل منطقة الساحل وغرب إفريقيا.
ومن بين السيناريوهات الأكثر ترجيحًا، أن تشهد البلاد انقلابًا تقوده مجموعة من الضباط والجنود، وذلك فى ظل الامتعاض الكبير من سياسات الجنرال غويتا، الذى يحكم البلاد منذ 2021، ويبدو عاجزًا بصورة كبيرة عن صد هجمات جماعة نصرة الإسلام والمسلمين.
ويظل الأمل معقودًا على تحرك إفريقى مشترك يعيد التوازن ويمنع سقوط مالى بالكامل فى قبضة الإرهاب؛ لأن سقوطها لن يبقى شأنًا محليًا؛ بل تهديدًا إقليميًا يمتد إلى الساحل والصحراء وربما شمال إفريقيا.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" روز اليوسف "










0 تعليق