شكّلت الحرب المدمرة على قطاع غزة محطة فارقة في مسار الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي، بعد أن اتسعت حدود العدوان لتشمل سبع جبهات، وانكشف خلالها حجم الدعم الغربي لإسرائيل كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط لا مجرد دولة احتلال.
وفي هذا السياق، شهدت المنطقة اختبارًا لموازين القوة وحدودها، بما فيها قدرة الأنظمة العربية على إدارة المشهد تحت ضغوط خارجية متزايدة، خلال صدمة الحرب، والتي ستترك أثرا مستقبليا لدى الشعوب.
ودوليًا وإقليميًا، كشفت عن هشاشة افتراضات، كانت مستقرة، ففي دولة الاحتلال، أكد هجوم السابع من أكتوبر ضعف مفهوم الردع وقدرته على الحماية الكاملة، بعدما تمكن مقاتلو المقاومة من اختراق مستوطنات غلاف غزة، وبقاء عناصر منهم يومين، وأسر 251 شخصا، بينهم جنود، وقتل 1200 آخرين، ما يوضح إمكانية الاستهداف، أو ممارسة ردع مضاد.
بينما ردّت تل أبيب بدعم غربي واسع، عبر حرب إبادة، غيرت واقع قطاع غزة، ودمّرت مقومات الحياة من خدمات الصحة والتعليم وغيرها، لتصبح الحياة شبه مستحيلة، مع استخدام التجويع كسلاح مباشر وعقاب جماعي وتكتيك حرب لدفع المقاومة لإعلان هزيمتها، في ظل تعدد الضغوط على سكان القطاع، وعسكريا بخسارة أغلب قادتها الميدانيين والسياسيين، غير خسائر لحقت بحزب الله والحوثيين سواء بهجمات أو بسياسية الاغتيالات.
وتعرضت إيران لهجوم إسرائيلي أمريكي منسق، عطل برنامجها النووي وأعاق تصنيع الصواريخ، لكن هدف إسقاط النظام لم يتحقق، لا عبر الضغط العسكري أو دعوات التحريض من تل أبيب وقادتها على رأسهم نتنياهو أو من عواصم عربية وأوروبية، تتلاقى في نفس الهدف.
وأسفرت حرب الإبادة في غزة عن كارثة إنسانية فادحة: 69 ألف شهيد و170 ألف جريح، بينهم أطفال مصابون بتشوهات دائمة وحالات بتر، وتحملت النساء أعباء مضاعفة، لدرجة أن الأمم المتحدة، وصفتها بحرب ضد المرأة. هذا بجانب آلاف المفقودين والمعتقلين، وتدمير شبه كامل للقطاع وتشريد نحو 90% من السكان الذين باتوا محصورين في 20% فقط من مساحة غزة، بعد سيطرة الاحتلال على الحدود.
مع هذه الكلفة الإنسانية، عادت فلسطين إلى الأجندة الدولية، وأصبحت رمزًا لاحتجاجات الحركات الاجتماعية عالميًا، في حين اتضحت محدودية الدورين الصيني والروسي، اللذين بقيا على هامش الأحداث، مما أظهر عجزا عن موازنة النفوذ الغربي الذي دعم إسرائيل بلا حدود.
وبرغم جهود الوساطة التي قادتها مصر وقطر، وانضمت إليها تركيا لاحقًا، انتهت الحرب باتفاق وقف إطلاق نار مشروط، حسب خطة ترامب للسلام، والتي جرى شرعنتها من مجلس الأمن، حيث فرضت فيها تل أبيب مكاسبها، مستندة إلى إطار تسوية، يضمن استمرار هيمنتها.
قبلت الخطة الدول العربية لغياب بديل، وعجز عن مواجهة العدوان، الذي تصاعد بمواجهة اليمن ولبنان وسوريا، غير فرض خطوط تماس جديدة وترتيبات أمنية، أعادت رسم خرائط السيطرة على حدود بلدان الطوق “الدول العربية التي تحيط بإسرائيل”.
وطال الابتزاز الإسرائيلي والضغوط الأمريكية مصر والأردن، ولم تسلم قطر دولة الوساطة من هجوم صاروخي مباغت وسريع، في وقت، تستضيف فيه وفد التفاوض لإقرار هدنة، ونال السعودية هجوم إعلامي أيضا، بعد أن أعلنت تراجع خطط للتطبيع معها، وفي السياق، تراجع زخم منظومة التطبيع دون انهيارها، مع استمرار تل أبيب وواشنطن لضم دول جديدة.
إقليميًا، تراجع محور المقاومة بسبب خسائره السياسية والعسكرية، فيما برز الدور التركي إلى جانب مصر وقطر كأطراف مركزية في الوساطة.
واليوم، تواجه الدول العربية اختبارًا صعبًا لإعادة تقييم تحالفاتها ومصالحها، في ظل هشاشة النظام الإقليمي، وتغير موازين القوى، واستمرار تهديدات الاحتلال، وستتحدد مستقبلاً ملامح المرحلة المقبلة وفق قدرة الأطراف على بلورة رؤية مشتركة وتشكيل تحالفات لمواجهة التبعات السياسية والاقتصادية، وتأثيراتها على ملفات صراع إقليمية أخرى.
أولا: التحولات الإقليمية
التوجهات الإسرائيلية
أحدثت الحرب تغييرات في الشرق الأوسط، بما في ذلك مكانة إسرائيل، غير وضوح مشروعها للهيمنة الإقليمية بعد هجوم 7 أكتوبر، والذي كشف هشاشة مفهوم الردع في مواجهة ضربات مفاجئة رغم القوة العسكرية المتطورة، وهذا أعاد التفكير حول ارتكازًها على التفوق العسكري في ظل وجود مهددات، وهو الأمر الذي طرح تساؤلات داخلية حول ” الحماية” في ظل خطر انتقام القوى المناوئة، وعدم كفاية اتفاقيات السلام لتحقيق الأمن مع استمرار القضية الفلسطينية دون حلول.
وظهرت ثلاثة اتجاهات، الأول العودة لفكرة التسوية مع الفلسطينيين ومباحثات سلام، والثاني القضاء على حماس والسيطرة على غزة، وبقاء الأوضاع كما كانت قبل السابع من أكتوبر، غزة مسيطر عليها ومحاصرة، والضفة السلطة فيها معزولة دون دور.
اما الاتجاه الثالث، فكان نفي القضية الفلسطينية بشكل كامل عبر فرض التهجير في غزة، والضم في الضفة، والقضاء على كل خطر يواجهها، وهو الخيار الذي تبناه الليكود وحلفاؤه، ما يعكس توجهًا نحو العدوانية الشاملة وتوسيع جبهات الهجوم.
وبرغم توحد غالب خلف فكرة الانتقام، إلا أن هناك انقسامات في المجتمع السياسي حول عمق الأزمة الحالية، وأفقها مع تزايد الضغط الدولي باعترافات بدولة فلسطينية، وعودة الشأن الفلسطيني إلى صدارة المشهد العالمي، والرأي العام العالمي الذي دفع بعض الحكومات الغربية لتعديل مواقفها، ما قد يجعل خيار التسوية مرشحا للتحقق، خاصة وأن الدول العربية بذلت جهدا في ذلك.
صعود وهبوط في ميزان القوى
أفرزت الصراعات المتشابكة، تغييرات استراتيجية واضحة في أدوار القوى الإقليمية، وأعادت تشكيل التحالفات وموازين القوى، في ظل واقع جيوسياسي، يتسم بالسيولة وعدم الاستقرار.
تراجع المقاومة؛ بسبب خسائرها السياسية والعسكرية، سواء في لبنان أو غزة واليمن، إضافة إلى الهجمات الإسرائيلية الأمريكية المنسقة على إيران، والتي أسفرت عن أضرار جسيمة لبرنامجها النووي وقدراتها الصاروخية وضعف قياداتها العسكرية، فيما أضاف انهيار النظام السوري تحديًا جديدًا، إذ قلّص دعم دمشق لحزب الله وقطع خطوط الإمداد، ما أعاد رسم ميزان القوى لصالح تل أبيب وحلفائها.
في المقابل، برزت تركيا كقوة صاعدة، تلعب دورًا محوريًا في الوساطة الإقليمية، مستفيدة من تراجع النفوذ الإيراني، بما في ذلك ضعف قدرات قوى المقاومة في لبنان، واليمن، والفصائل الفلسطينية.
وتمكنت أنقرة من توسيع نفوذها الإقليمي عبر وساطات سياسية ودبلوماسية مع مصر وقطر، مستغلة قدراتها على التدخل في الملفات المرتبطة بالشرق الأوسط ونسبيا إفريقيا.
من جهة أخرى، تصدعت شبكات التطبيع، دون انهيار، بينما تواصل واشنطن جهود ترميمها، وضم دول جديدة لاتفاقيات إبراهيم، بينها السعودية ولبنان وسوريا ودول إفريقية وإسلامية، في إطار استراتيجية للهيمنة.
هذا المشهد كشف عن هشاشة الاستقرار الإقليمي، وعكس تحولات ملموسة في تحالفات القوى الكبرى، مع إبراز دور تركيا كوسيط مؤثر، وتراجع إيران، وتصاعد تحديات مصر، غير وقوع الخليج لضغوط، والذي تصور أنه بعيد نسبيا عن دائرة التأثير، لكن قابل مشكلة أمن الممرات البحرية، وابتزاز أمريكي.
ثالثا: مواقف الدول العربية وأدوار الوساطة
لعبت مصر وقطر دورًا محوريًا في جهود الوساطة، مركزة على الضغط على حركة حماس للقبول بصفقة وقف إطلاق النار، حيث حذرتا، من أن “الوقت ينفد”. وتجنبت الدولتان اتخاذ إجراءات مباشرة في مواجهة تل أبيب، بحكم علاقتهم بالجانب الأمريكي الذي كان يحد من هامش المناورة لديهما، لتظهر الدولتان في موقع وسيطين ضمن مسار التفاوض.
ومن أجل تسوية مؤقتة، دفعت واشنطن بالدور التركي، مستغلة علاقات أنقرة الإقليمية مع تمهيد للعب دور مستقبلي في إدارة الأزمة، وفي موازنة مع تعنت تل أبيب لم يكن يمرر رؤية واشنطن بسهولة، حيث تكرر: إسرائيل دولة مستقلة ديمقراطية، تتخذ قراراها من داخلها.
وفي الوقت ذاته، تلعب تركيا دورًا مركزيًا في سوريا ضمن رسم خريطة سياسية جديدة، وإبعاد إيران عن دمشق وخلق نظام سياسي، ترحب به واشنطن وأطراف خليجية.
من جهة أخرى، جاءت خطة ترامب بمثابة عرض تفاوضي لإنهاء الحرب، لكنها عمليًا كرست لفكرة الاستسلام، وبينما أنهت العدوان، فأنها أكدت مكاسب دولة الاحتلال، ربطت وقف إطلاق النار بشروط استراتيجية، تضمنت نزع سلاح المقاومة، وتدمير بنيتها العسكرية، وتسليم الرهائن، ما منحها قدرة على معاودة القتال حتى عبر هجمات محدودة، كما الساحة اللبنانية.
كما أوجدت “محيطًا أمنيًا” داخل غزة لفترة غير محددة، بما في ذلك السيطرة على منطقة رفح الحدودية مع مصر، في انتهاك لمعاهدة السلام، ويعكس أن الخطة أداة لتكريس السيطرة وامتدادًا للحرب، وضمانًا لاستمرار الهيمنة الإقليمية في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار.
شرعنة خطة ترامب دولياً
رغم المكاسب التي منحتها الخطة لإسرائيل، فإنها فتحت الباب للتنصل من اتفاق وقف إطلاق النار. وفي هذا السياق، دعمت دول عربية مشروع قرار أمريكي في مجلس الأمن لتثبيت إنهاء إطلاق النار، ونشر قوة دولية في غزة، تتولى الأمن ونزع السلاح، وقد مرّ القرار بتأييد 13 عضوا، دون اعتراض روسي أو صيني، حيث امتنعت الدولتان عن التصويت، حيث جرى اتصالات معهما من الدول العربية بجانب باقي أعضاء المجلس.
فصائل المقاومة رفضت القرار ببيان مشترك، معتبرة أنه يفرض شكلاً من أشكال الاحتلال. ورأت حماس، أنه لا يلبّي المطالب الفلسطينية، ويحوّل القوة الدولية إلى طرف لصالح الاحتلال ، فيما وصفت الجهاد الإسلامي القرار، بأنه وصاية، تحقق ما عجز الاحتلال عن تحقيقه عسكرياً.
في المقابل، رحبت السلطة الفلسطينية بالقرار بوصفه يثبت وقف النار، ويدعم إدخال المساعدات وحق تقرير المصير، معلنة استعدادها للتعاون من أجل حماية الشعب، ومنع التهجير، وضمان الانسحاب الكامل من غزة وإعادة الإعمار ووقف تقويض حل الدولتين.
أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فرحّب بتصويت مجلس الأمن، واعتبره أحد أكبر حالات التوافق في تاريخ الأمم المتحدة.
وينص القرار 2803 الذي يشرعن خطة ترامب للسلام، التي أعلنها 2 سبتمبر الماضي، على إنشاء قوة دولية لاستقرار غزة تحت قيادة موحدة، يقرّها “مجلس السلام”، وتعمل بالتنسيق مع مصر وإسرائيل، وتستخدم ما يلزم لتنفيذ ولايتها وفق القانون الدولي، بما في ذلك مراقبة وقف النار وإنجاز الترتيبات الخاصة بالخطة الشاملة.
كما يظل التفويض للقوة والمجلس سارياً حتى 31 ديسمبر 2027 مع إمكانية تجديده بالتنسيق بين الدول المعنية.
وعموما جاء اتفاق السلام الذي طرحه ترامب، والذي جرى تثبيته دولياً عبر قوة وصاية على غزة، انعكاساً لاختلال موازين القوى، إذ تجنّبت الدول العربية مواجهة دبلوماسية مباشرة، مكتفية بخطوات محدودة مثل، سحب مصر والبحرين لسفرائهما مؤقتاً، وتهديد الإمارات بوقف التعاون، وامتناع السعودية عن التطبيع خلال توسع العمليات العسكرية.
ولم يجر بلورة موقف عربي موحّد مع واشنطن، يغيّر مسار الاتفاق، ما أدى عملياً إلى دعم الخطة وتمرير ها في قرار لمجلس الأمن، واعتبارها ملحقا للقرار وموجها له.
رابعا: تحديات ومهام مستقبلية في منطقة على مفترق طرق
في ظل هذا المشهد الإقليمي المعقد، تحرك قوى الشرق الأوسط لمواجهة التهديدات ضرورة، تتطلب رؤى استراتيجية واضحة، في ظل إدراك أهمية الحوار لتقريب وجهات النظر والوصول إلى توافق على خطوط وأهداف عمل واضحة، ومقاومة أي صفقات ثنائية مع إسرائيل، تهدد القضية الفلسطينية بدرجة أكبر.
هذا مع التوحد خلف أهداف، وقف العدوان على غزة، ومجمل الدول العربية امتدادًا من لبنان إلى اليمن، كما يجب على دول التطبيع، أن تربط علاقاتها بمسار وخطوات عاجلة، بدء من إعادة إعمار غزة، وإدارة فلسطينية مستقلة للقطاع.
وفى مدى زمني أطول، إقامة دولة فلسطينية على أراضي الضفة وغزة، والذي يتطلب أيضا، وجود رؤية وطنية تتجاوز ضعف السلطة والانقسام الجغرافي والسياسي، بين فصائل المقاومة في غزة وسلطة رام الله، والتوحد حول برنامج وطني، يعالج آثار العدوان بالتعاون مع الأطراف الدولية والإقليمية.
إجمالاً. شكلت الحرب كارثة إنسانية هائلة، وإعادة رسم المشهد الإقليمي، وموازين القوى، حيث تراجع قوى المقاومة؛ بسبب الخسائر في لبنان وغزة واليمن، وسوريا، فيما تعرضت إيران لضربات، أثرت على قدراتها العسكرية، وحققت إسرائيل مكاسب استراتيجية، وفرضت شروط على غزة وسوريا ولبنان، ومارست ضغوط على معظم الدول العربية، بما فيهم دول التطبيع.
برزت تركيا كقوة صاعدة، تلعب دورًا محوريًا في الوساطة الإقليمية، مستفيدة من الفراغ الذي خلّفه تراجع طهران، وقادت مصر جهود الوساطة، ودفعتها التغيرات الإقليمية مع السعودية وإيران إلى إعادة تقييم سياساتها الخارجية وإعادة رسم أشكال التعاون.
فيما عاد ملف أمن البحر الأحمر كمرتكز للصراع والتحالفات، وهناك تعاون بين دوله لتأمينه في ظل تعدد المخاطر.
على مستوى شعوب المنطقة، ستترك الحرب أثرًا طويل الأمد في تقييم الرأي العام لأداء الأنظمة وقدرتها على مواجهة التهديدات، وأظهرت الانتخابات في الأردن كمثال، تنامي قوة التيارات المعارضة للسياسات الحكومية تجاه الحرب.
وعموما، يمتزج أحيانا الإحباط الشعبي من غياب دور فعال في قضايا خارجية، وشعور الشعوب بالظلم الاجتماعي مع مساس بكرامتهم في مواجهة عدو خارجي.
وأخيرا، إن بقاء التحديات الإنسانية والسياسية والاقتصادية التي خلفتها الحرب، مع وضع شعوب المنطقة وسياسة أنظمتها الحاكمة، يجعل المنطقة أمام مفترق طرق، لا تبحث فيه الأنظمة وحسب عن مخرج، ولكن الشعوب أيضا.
لقراءة التقرير كاملا:
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" masr360 "




0 تعليق