أثار فوز السياسي الشاب زهران ممداني المنتمي للحزب الديمقراطي بمنصب عمدة مدينة نيويورك الكثير من الجدل داخل الولايات المتحدة، ولا يزال حيث نجح في هزيمة الحاكم السابق لنيويورك، أندرو كومو، والجمهوري كورتيس سليوا بجدارة .
وأثار الجدل ذاته عربيا على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، ربما منذ ترشحه في تلك الانتخابات وطرحه لخطاب مناوئ لكثير من ثوابت السياسة الأمريكية سواء في الانحياز لإسرائيل، أو في توجهه الاشتراكي، وهو ما خلق مخاوف لدى النخبة المهيمنة ضده بدءا من ترامب إلى الدوائر المقربة من إسرائيل، ومع ذلك اتسعت حملته الانتخابية الناجحة لتضم مئة ألف متطوع؛ لتؤكد فوزه المهم.
وترجع مظاهر الاحتفاء بهذا الفوز لعدد أسباب منها، حداثة سنه والذي لم يتجاوز الـ 34 عاما، وكونه مسلما، وأصله الأوغندي، وخطابه المتعاطف مع الأقليات وانحيازه للفقراء والعمال والمهاجرين وحقهم في نظام سياسي واقتصادي، يحقق العدالة الاجتماعية من خلال إيجاد فرص العمل وتخفيض الإيجارات، ورفع الحد الأدنى للأجور، وطرحه لشعارات تمنح الأمل بديلا للاستبداد.
وجزء من نجاح “ممداني” يرجع لهذا الخطاب المؤثر الذي تجاوز السياسات اليمينية الرأسمالية التي تعمل لصالح القلة الثرية في الولايات المتحدة بشكل عام، ونجاحه في تحفيز قطاعات كبيرة من الناخبين بالتصويت لصالحه.
ربما ليس جديدا، أن ينجح هذا النموذج في أمريكا، ويذكرنا بالفوز الذي حققه أوباما في 2008 كأول أسود، ومن أصل إفريقي يصل إلى منصب الرئاسة لفترتين.
وبدوره أبدى الرأي العام المصري إعجابا بهذه التجربة، وبالرغم من الخطاب المعادي لها من جانب الرئيس ترامب، فقد سمحت آليات الديمقراطية هناك بنجاح هذا النموذج؛ بسبب حرية الاختيار، ووجود الدعم الشعبي لقوى كبيرة التي دافع عنها “ممداني” من خلال انحيازه لها ولقضاياها، وبالطبع الفارق كبير في انتخاباتهم التي تسمح بذلك، وانتخاباتنا التي لا تتسامح مطلقا بتكرار هذا النموذج، خاصة إذا تبني خطابا معاديا للسلطة ولسياساتها.
ويذكرنا هذا بمحاولات مصرية سابقة، اقتربت من هذا النموذج، كأن مصر لا زالت تبحث عن “ممداني” الخاص بها بعد خيبات الأمل التي مُني بها المصريون بعد ثورة 25 يناير التي استطاعت إسقاط نظام فاسد حكم لمدة 30 سنة، ولكنها لم تنجح في بناء البديل، وعادت عشرات الخطوات إلى الوراء بعد 2013..
وفي تقديري، أن هذه المحاولات بدأت في مصر منذ عام 2005 بنشاط حركة كفاية وأخواتها، وربما اقترب هذا النموذج في أشخاص بعينهم منهم السياسي “أيمن نور” بالترشح في أول انتخابات رئاسية تعددية عام 2005،.ثم استدعاء د. محمد البرادعي والحائز على جائزة نوبل؛ ليكون منافسا سياسيا لمبارك في عام 2009، وبعدها، ثم تكررت المحاولة بعد ثورة 25 يناير في عدة نماذج أخرى منها “حمدين صباحي، عبد المنعم أبو الفتوح، عمرو موسى” في انتخابات 2012 التي شهدت درجة أعلى من النزاهة من مثيلاتها، إلا أن هذا الاستدعاء لم ينجح لأسباب مختلفة، بسبب التنافس بينها، مما أدى لتفتيت الكتل التصويتية بينهما.
تكررت ظاهرة البحث أيضا مع ظهور النائب السابق أحمد الطنطاوي الذي بدا نجمه في الظهور مع رفضه التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير، ومعارضة التعديلات الدستورية في عام 2019، ليجهض مؤقتا بحبسه وعدد من أعضاء حزبه في عام 2024 بتهمة تزوير توكيلات للترشح في انتخابات 2024 الرئاسية!
تبدو هذه النماذج قربية إلى حد ما من نموذج “ممداني” في عدة عناصر أهمها: الإيمان بالنموذج الديمقراطي، والعدالة الاجتماعية، الدفاع عن العمال والفلاحين والطبقات الفقيرة، الإيمان بالعدالة الاجتماعية، التصالح مع التيارات السياسية المختلفة، وجود كاريزما سياسية وشعبية، القدرة على تحدي السلطة، الدفاع عن الحريات والحقوق.
والأغرب، أن كل هذه الشخصيات باستثناء د. محمد البرادعي، تم حبسها خلف قضبان السجون بتهم سياسية، ومنها تزوير التوكيلات الرئاسية، أو الانضمام لجماعة إرهابية، أو نشر أخبار كاذبة، ولا زال أحدهم هو د. عبد المنعم عبد الفتوح محبوسا منذ 8 سنوات، وهو ما يطرح دور الدولة العميقة في إجهاض هذه النماذج مبكرا.
يجمع هذه النماذج تأسيسها لأحزاب، حققت تواجدا سياسيا ممثلا في تجارب أحزاب “الغد، الكرامة، مصر القوية، تيار الأمل”، ومع ذلك لم تنجح هذه التجارب في جذب الجمهور المتعاطف مع هذا الخطاب السياسي لأي منهم.
ولاقت هذه التجارب في المحصلة فشلا ذريعا، أعقب ثورة 25 يناير والانقسام الذي حدث بين كل من الكتلة المدنية وجماعة الإخوان المسلمين، انتهى بهيمنة المؤسسة العسكرية على السلطة في 2013.
لكن لماذا لم تنجح تجربة مشابهة لممداني في مصر، لتسعى إلى تجاوز حالة الهيمنة السياسية للسلطة التنفيذية وتهمش باقي السلطات؟ ربما يرجع ذلك لعدة أسباب:
ـ اختلاف الحياة السياسية في التجربتين المصرية والأمريكية، في تبني الأولى فكرة حرية التنظيم والتجمع السلمي والمشاركة، بالإضافة إلى عزوف أغلبية المواطنين المصريين عن العمل الحزبي، خاصة عقب 2013 بفعل ما حدث.
ـ حيوية النموذج السياسي الأمريكي، والذي تجسد في قوة كبيرة ومتكافئة لكل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، الأمر الذي تفتقده الساحة المصرية.
ـ حرية الصحافة والإعلام والنشاط الفاعل لمنظمات المجتمع المدني هناك، عكس ما حدث في مصر عقب عام 2013 بتكميم الأصوات المستقلة، وحصار المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان .
ـ نجاح نموذج المحليات في النموذج الامريكي ورسوخ قوة الولايات والمدن وتمتعها بصلاحيات مهمة، عكس الحالة المصرية التي تشهد مجالسها المحلية غيابا سياسيا منذ عام 2008، وكأن هناك تعمدا في تغييب المشاركة الشعبية في المحافظات.
ـ فقدان الثقة من جانب قطاعات شعبية كبيرة في إمكانية وجود أداء سياسي ناجح ومعارض، خاصة مع السطوة الهائلة التي باتت تفرضها أجهزة الإدارة المصرية على كل تفاصيل الحياة هناك.
ويبدو أن هناك ما يستدعي تقديم نموذج مختلف من جانب النخبة المصرية من خلال الدفاع عن قضايا الشعب بمختلف الآليات الاحتجاجية والقانونية والسياسية والاقتصادية، واختراق كل الحواجز التي تقف سدا أمام هذا التفاعل، ليأتي “ممداني” المصري من قلب الناس، ينحاز لقضاياهم ويدافع عنها.
ولا يعني ذلك اقتصار هذا النموذج على شخصية سياسية بعينها، بل يمكن أن يستند إلى تنظيم واسع ونموذج كفاية والجمعية الوطنية للتغيير واتحاد العمال التونسي كلها نماذج ملهمة في هذا الصدد، ويمكن تكراره.
في النهاية، يجب أن يتبنى هذا النموذج قضايا المصريين الأساسية واحتياجاتهم الاجتماعية والاقتصادية، فهي القضايا التي تجذب الناخبين وتشعرهم، بأن قضاياهم محل اهتمام حتى يحصل على النجاح المطلوب.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" masr360 "














0 تعليق