إن الزيارة التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن في نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، والتي استضافها الرئيس دونالد ترامب، لم تكن مجرد تبادل دبلوماسي فحسب، بل كانت بمثابة نقطة تحول مهمة في التطور المعقد للمشهد الجيو سياسي للمنطقة.
انعقد هذا الاجتماع على خلفية تقلبات إقليمية عميقة، بما في ذلك تداعيات طوفان الأقصى 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والإبادة الجماعية التي صاحبتها في غزة، وحرب الـ١٢ يوما بين إسرائيل وإيران، والتهديدات المستمرة للأمن البحري من حركة الحوثي في اليمن. بالنسبة للمملكة، عززت الزيارة علاقة استراتيجية شخصية وتجارية وأمنية مكثفة مع إدارة ترامب، مع التأكيد في الوقت نفسه على السياسة الخارجية للرياض الخادمة للداخل أساسا.
تتميز البنية الجيو سياسية الناتجة عن ذلك بتكامل دفاعي واقتصادي متعمق، وإن كان غير متكافئ بين الولايات المتحدة والسعودية، وهو اختبار حاسم لمبدأ التفوق العسكري النوعي الذي تتبناه الولايات المتحدة تجاه إسرائيل منذ فترة طويلة، واستمرار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، باعتباره العائق الأساسي أمام التطبيع الإقليمي الأوسع.
إضفاء الطابع المؤسسي على الروابط الشخصية
العلاقة بين الرئيس ترامب وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والتي عادة ما توصف بأنها “صداقة حميمة”، تؤكد على التقدير المتبادل، ورؤية عالمية مشتركة، تعطي الأولوية للمعاملات الثنائية على الدبلوماسية القائمة على القيم. أشار ترامب مرارًا وتكرارًا إلى محمد بن سلمان باعتباره “صديقه”، وأشاد بالعلاقة، ووصفها بأنها “رائعة”، وهو ما يتناقض بشكل حاد مع العلاقات في عهد الرئيسين أوباما وبايدن. وقد سهلت هذه العلاقة الشخصية تحقيق مكاسب تجارية واستراتيجية فورية وكبيرة للمملكة.
وكانت إحدى النتائج الأساسية للزيارة هي الالتزام الضخم من جانب المملكة العربية السعودية بزيادة تعهدها بالاستثمار في الولايات المتحدة من 600 مليار دولار التي أُعلن عنها في مايو/ أيار الماضي إلى ما يقرب من تريليون دولار. وفي حين اعتبر النقاد، بمن فيهم محللون من معهد دول الخليج العربية (AGSI)، الرقم الأولي البالغ 600 مليار دولار غير معقول، واعتبروا التعهد اللاحق بتقديم تريليون دولار محض “خيال”، إلا أن هذا الإعلان يعزز تصور ترامب لحكام الخليج، باعتبارهم قادرين بشكل فريد على توفير ثروة مالية هائلة وفوائد اقتصادية للولايات المتحدة.
وتركز الصفقة على عدة مجالات رئيسية، بما يتماشى مع رؤية المملكة العربية السعودية 2030:
1. الصفقات التكنولوجية والمعدنية: تم توقيع اتفاقيات، تتعلق بالذكاء الاصطناعي وإطار عمل المعادن الحيوية، مما يضمن وصول السعودية إلى الأنظمة الأمريكية مع السعي إلى حماية مرونة سلسلة التوريد الأمريكية. من المتوقع، أن تستفيد الشركات الأمريكية، مثل إنفيديا، من عشرات المليارات من الاستثمارات المتعلقة بتطوير الذكاء الاصطناعي والرقائق ومراكز البيانات في المملكة.
2. التعاون النووي المدني: استكمل الطرفان المفاوضات بشأن إعلان مشترك بشأن التعاون في مجال الطاقة النووية المدنية، مما أرسى الأساس القانوني لشراكة بمليارات الدولارات، تتوافق مع معايير منع الانتشار. هذا الملف حساس بشكل خاص، حيث سعت المملكة العربية السعودية إلى امتلاك القدرة على تخصيب اليورانيوم لأغراض اقتصادية سلمية.
3. التدفق الاقتصادي والاستثمار: يلعب صندوق الاستثمارات العامة السعودي دورًا محوريًا في توجيه الاستثمارات إلى البنية التحتية والتكنولوجيا الأمريكية، ومن الجدير بالذكر، أن استحواذ صندوق الاستثمارات العامة على شركة EA Sports، والتي تقدر قيمتها بـ 55 مليار دولار، يؤكد على تركيز المملكة على قطاعي التكنولوجيا والترفيه.
تُثير الطبيعةُ المُبالغ فيها لهذه العلاقة مخاوفَ أخلاقيةً مُستمرة في واشنطن، لا سيما فيما يتعلق بحقوق الإنسان في المملكة، وبالمصالح المالية لشركاء ترامب. على سبيل المثال، حصلت شركةُ جاريد كوشنر الاستثمارية، أفينيتي بارتنرز، على استثمارٍ بقيمة ملياري دولار من صندوق الاستثمارات العامة السعودي بعد ستة أشهر من مغادرة ترامب منصبه، على الرغم من أن لجنةَ الاستثمار التابعةَ لمحمد بن سلمان أثارت شكوكًا حول افتقار كوشنر للخبرة، كما صاحب الزيارة الإعلان عن شراكة استثمارية مع مؤسسة ترامب في جزر المالديف. يشير هذا إلى أن الصفقات التجارية والنهج المعاملاتي متشابكان بشكل عميق مع الوصول السياسي الشخصي والمكاسب المالية غير المتوقعة بعد نهاية ولاية ترامب.
الضرورة الدفاعية
بالنسبة للمملكة، كان الهدف الاستراتيجي من زيارة واشنطن هو تأمين التزامات دفاعية قوية، في بيئة تم فيها التشكيك في موثوقية الولايات المتحدة، خاصة بعد الرد الأمريكي الفاتر على الهجمات المدعومة إيرانيا على منشآت النفط السعودية في عام 2019.
وقد حققت الزيارة عدة إنجازات دفاعية هامة:
1. رفع المكانة: عيّن الرئيس ترامب المملكة العربية السعودية رسميًا حليفًا رئيسيًا من خارج الناتو (MNNA). جاء ذلك في أعقاب توقيع السعودية اتفاقية دفاع مشترك مع باكستان المسلحة نوويًا في سبتمبر/ أيلول، مما يسلط الضوء على حاجة الرياض المتزايدة لتنويع وتعزيز هيكلها الأمني.
2. اتفاقية الدفاع الاستراتيجي: وقع القادة على اتفاقية الدفاع الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والسعودية، والتي تهدف إلى تعزيز الردع الإقليمي وضمان بقاء المملكة العربية السعودية الشريك الاستراتيجي الأساسي للولايات المتحدة. يشير هذا الاتفاق الأمني الخاص إلى التزام الرياض باختيار الولايات المتحدة كخيارها الأمني الأول، حتى مع الحفاظ على “عدسة متعددة الأقطاب غير متكافئة”، تسمح بالتواصل مع الصين وروسيا.
كان العنصر الحاسم والمثير للجدل للغاية في حزمة الدفاع هو الاتفاق على بيع طائرات مقاتلة من طراز F -35 Lightning II إلى المملكة، ترى الرياض، أن طائرة إف- 35 هي “حجر الزاوية التكنولوجي” لتحديثها العسكري بموجب رؤية 2030، وهي ضرورية للردع المتكامل عالي التقنية ضد قدرات الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار الإيرانية.
ومع ذلك، فإن هذا البيع المقترح يخلق “ديناميكية سياسية ثلاثية” معقدة في الشرق الأوسط.. إن طائرة F -35 هي الطائرة الأكثر تقدمًا في الترسانة الأمريكية، ولم يتم تقديمها تاريخيًا إلى دول الشرق الأوسط بخلاف إسرائيل. إن احتمال امتلاك المملكة العربية السعودية لمقاتلات شبحية يثير المخاوف في إسرائيل، وبين جماعات الضغط الإسرائيلية القوية في واشنطن، لأنه يتحدى بشكل مباشر التفوق العسكري النوعي الذي تتمتع به إسرائيل منذ فترة طويلة. ويشير المحللون، إلى أن الموافقة على البيع قد تؤدي إلى إشعال عاصفة سياسية محلية، مما قد يجبر الولايات المتحدة على تقديم حزمة تعويضات أكثر تقدمًا لإسرائيل، وبالتالي، تأجيج سباق التسلح الإقليمي. وعلى العكس من ذلك، فإن رفض البيع من شأنه، أن يعجل بتنويع المملكة استراتيجيًا نحو موردين آخرين، مثل الشركاء الأوروبيين أو تركيا (بالنسبة لطائرة الشبح KAAN)، مما يؤدي إلى التنازل عن علاقة دفاعية عبر الأجيال للمنافسين الاستراتيجيين.
وبالتالي، فإن مفاوضات إف- 35 تضع واشنطن في مأزق: إما أن تدير السياسة الداخلية الصعبة المتمثلة في تحديث عقيدة التفوق العسكري النوعي، وإما أن تخاطر بدفع شريك استراتيجي رئيسي نحو الخصوم. بالنسبة لمحمد بن سلمان، كان تجديد هذا الطلب قبل الزيارة خطوة متعمدة لفرض هذا القرار، وذلك من خلال قياس مستوى الالتزام المؤسسي من جانب الولايات المتحدة، بما يتجاوز الضمانات الشخصية.
مأزق التطبيع
وعلى الرغم من رغبة الرئيس ترامب الشخصية في التوصل إلى اتفاق تطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل– وهي الجائزة التي يتوق إليها، باعتبارها إنجازًا محتملًا لجائزة نوبل للسلام- فقد أكدت الزيارة، أن إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات يظل مشروطًا بحل القضية الفلسطينية. رفض محمد بن سلمان “بأدب” الانضمام إلى اتفاقيات إبراهام في الوقت الحالي، مشيرًا إلى أنه لا يمكنه التوقيع، إلا إذا تم إنشاء مسار ثابت نحو إقامة دولة للفلسطينيين.
إن الموقف السعودي واضح: إن حل الصراع العربي الإسرائيلي يعتبر ضروريا للحد من عدم الاستقرار والتطرف-وهما شرطان أساسيان لتحقيق الازدهار الاقتصادي الذي يشكل محور رؤية 2030. تصر الرياض على حل سياسي للقضية الفلسطينية على أساس حدود عام 1967 مع القدس الشرقية عاصمة فلسطينية.
ويضع هذا المطلب العلاقة عند طريق مسدود، حيث أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي يهيمن عليها عناصر يمينية، ملتزمة بشدة بسياسات الضم التي تستبعد فعليا قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. علاوة على ذلك، فإن تصرفات ترامب السابقة، مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وإعلان السيادة على مرتفعات الجولان المحتلة، تتناقض بشكل مباشر مع الموقف الأساسي للمملكة بشأن حل الدولتين.
تبقي نقطة هامة وهي: أنه في ضوء تعاطف الجمهور السعودي، وخاصةً الشباب، في أعقاب المحرقة الواسعة في غزة، فإن المخاطر السياسية التي قد يواجهها محمد بن سلمان في حال ظهوره، وكأنه “يلقي بالفلسطينيين تحت الحافلة” دون تقديم تنازلات حقيقية، مرتفعة للغاية.
السعودية أولاً
إن المشهد الجيو سياسي بعد الزيارة محدد بشكل كبير بالتحول الداخلي في السعودية، والذي يطلق عليه “السعودية أولاً”. أولوية الرياض هي التحول الداخلي:
1. رؤية 2030 والتركيز على الداخل: يقود محمد بن سلمان المملكة نحو استثمارات ضخمة في الخدمات اللوجستية والطاقة المتجددة والتعدين والسياحة لتحويل الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد على النفط. إن الموارد الهائلة المطلوبة لرؤية 2030 تتطلب بيئة من الاستقرار والسلام، وهو ما يشكل قيدًا قويًا على مغامرات السياسة الخارجية.
2. خفض التصعيد الإقليمي والحياد: تسعى المملكة العربية السعودية بشكل استباقي إلى خفض التوترات الإقليمية، وهي استراتيجية تتناقض مع موقف إدارة ترامب المتشدد تجاه إيران. فقد سعت الرياض إلى انفراج حذر مع طهران، وأعادت العلاقات الدبلوماسية في عام 2023 (بوساطة من الصين). والأمر الحاسم هو أن المملكة أدانت الهجمات الإسرائيلية على إيران، وأعلنت الحياد، رافضة السماح باستخدام أراضيها لشن ضربات هجومية.
تعارض الرياض أي صراع من شأنه، أن يؤدي إلى تصعيد التوترات وتقويض جهودها نحو النمو الاقتصادي، وتتعامل مع النظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع، مراهنة على دوره في منع الممر البري الإيراني إلى البحر الأبيض المتوسط، وتحقيق الاستقرار في منطقة حيوية استراتيجيا.
3. التعددية القطبية البرجماتية: يدرك القادة السعوديون حقيقة وجود عالم متعدد الأقطاب، ويستخدمون استراتيجية غير متكافئة، حيث يحافظون على الولايات المتحدة، باعتبارها الضامن الأمني الأساسي مع تعميق العلاقات مع القوى العظمى البديلة، وخاصة الصين وروسيا، في مجالات التجارة والهيدروكربونات والتكنولوجيا. إن هذا التحوط هو رد فعل على التناقض الملحوظ في السياسة الأمريكية عبر الإدارات المختلفة.
الخلاصة: مسار غير مؤكد
باختصار، كان المشهد الجيو سياسي عقب زيارة محمد بن سلمان متناقضًا تمامًا. فالعلاقة الأمريكية السعودية، على الرغم من قربها وقوتها الاقتصادية والأمنية التي لا شك فيها- والتي اتسمت بتعهدات استثمارية ضخمة وترقية المملكة إلى مرتبة حليف من خارج خلف الأطلسي، إلا أن هذا المشهد يعتمد بشكل كبير على الكيمياء الشخصية بين ترامب ومحمد بن سلمان، مما يثير المخاوف بشأن متانته المؤسسية وقابليته للتحولات المتقلبة.
وسيتوقف النجاح النهائي لهذا النهج على مدى قدرة الصفقات الاقتصادية والأمنية المبرمة في واشنطن على الصمود في وجه الضغوط التي يفرضها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني غير المحلول، والظلال الوشيكة لطموحات إيران النووية.
وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن عصر الدبلوماسية التبادلية هذا، وإن كان يحقق مكاسب قصيرة الأجل، إلا أنه يُدخل شكوكًا طويلة الأجل تُفاقم زعزعة استقرار الحسابات الاستراتيجية الدقيقة للمنطقة. فكما يُقال، نادرًا ما تُغلق أبواب الشرق الأوسط؛ بل تبقى مفتوحةً، في انتظار اللحظة المناسبة لإعادة الانخراط، أو ربما لمزيد من الصراع.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" masr360 "















0 تعليق