belbalady.net دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- على السهول العشبية المفتوحة في ما يُعرف اليوم بكازاخستان، ازدهرت مستوطنة تعود إلى العصر البرونزي، يُحتمل أنّها أدت دور مركز للتبادل والسلطة نحو العام 1600 قبل الميلاد.

كانت المستوطنة، المسماة سيميياركا والملقبة بـ"مدينة الوديان السبعة" لوقوعها فوق شبكة من المنخفضات، قد اكتُشفت في مطلع الألفية، لكن الحجم اللافت للموقع وأهميته المحتملة في سهوب أوراسيا لم يتضحا إلا بعدما بدأ فريق دولي من علماء الآثار بمسح المنطقة في العام 2018.

كشف الفريق عن مساحة واسعة كانت تضم بيوتًا عديدة، ومبنى مركزيًا ضخمًا ربّما استُخدم للطقوس أو للحكم، إضافة إلى منشآت يُحتمل أنها كانت مخصّصة لصناعة البرونز القصديري.

وقال مؤلفو الدراسة إنّ نتائجهم، المنشورة في مجلة Antiquity، الإثنين، ليست سوى البداية.

وعلّقت ميلجانا راديفوييفيتش، الأستاذة المشاركة في علم الآثار بكلية لندن الجامعية والباحثة الرئيسة في الدراسة: "الأمر مثير جدًا، لأنّ العثور على إنتاج للبرونز القصديري في هذه المنطقة نادر للغاية"، مضيفة: "نعلم أنّ لدينا مئات آلاف القطع المصنوعة من البرونز القصديري من العصر البرونزي في سهوب أوراسيا، غير أنّنا لا نملك سوى موقع واحد حول إنتاج هذا النوع من البرونز. وهذا هو الموقع الثاني". 

وأوضحت راديفوييفيتش أنّ البرونز القصديري أتاح صنع أدوات ومواد أكثر صلابة.

وأوضح الباحثون أنّ مواصلة الاكتشافات في سيميياركا تغيّر فهمنا للحياة الحضرية في أوراسيا ما قبل التاريخ.

وقال دان لورنس، المؤلف المشارك في الدراسة وأستاذ علم الآثار في جامعة دورهام بالمملكة المتحدة: "لم نعثر على موقع مماثل سابقًا"، مضيفًا أنّ السهوب لا تكاد تكشف سوى عدد محدود جدًا من المستوطنات.

وتابع: "عادةً ما نربط هذه المنطقة بالمجموعات الرعوية المتنقلة، ونفترض أنهم كانوا يعيشون في خيام أو بيوت متنقلة. لكن ما وجدناه هنا مختلف تمامًا وبوضوح".

يمتد الموقع على مساحة نحو 1.4 كيلومتر مربع فوق وادي نهر إيرتيش، ما قد يشير، بحسب لورنس، إلى أنّ سهوب العصر البرونزي احتضنت مدنًا متطورة تشبه ما كان قائمًا آنذاك في المناطق الحضرية الأخرى حول العالم.

مسح مدينة ضائعة

للعثور على حدود المستوطنة، قام لورنس وفريقه بمشروع مسح اعتمد على صور الأقمار الاصطناعية وتحليل كل مربع مساحته 50 مترًا مربعًا، عبر الموقع. واقتصر العمل على فحص السطح فقط، حيث عثروا على شظايا فخارية تضمنت ما لا يقل عن 114 وعاءً خزفيًا، إضافة إلى قطع أخرى متناثرة في جميع أنحاء المستوطنة.

كما استخدم الفريق صورًا التقطتها أقمار "كورونا" التجسسية في الستينيات لتحديد المناطق التي تعرضت لتغييرات خلال العقود الماضية، إضافة إلى تقنية القياس المغناطيسي، وهي وسيلة مسح غير تدخّلية سمحت برؤية البنى المدفونة والأجسام المعدنية من دون الحاجة إلى الحفر.

قالت راديفوييفيتش إن الخطوة التالية، أي أعمال الحفر، بدأت بالفعل، وقد ظهرت اكتشافات جديدة، مضيفة: "ما نُشر حتى الآن هو أننا وجدنا دلائل عبر فحص المواد مثل الأوعية الحرارية ومخلفات الصهر المعدنية والتحف، وتمكّنا من ربطها ببعضها والقول إن هذه هي البرونزات". 

وتابعت: "لكن مع استمرار العمل، تظهر اكتشافات إضافية، وهذا جعلني أكثر ثقة في الحديث عن إنتاج معدني واسع النطاق في الموقع".

إلا أن هذا الأمر لم يقنع الجميع بأنّ سيـمـيّاركا كانت أشبه بمدينة كبرى. 

فجيمس جونسون، عالم الآثار والأستاذ المساعد بالأنثروبولوجيا في جامعة وايومنغ بلارامي، غير المشارك في البحث الجديد رغم دراسته مجتمعات الرعاة في سهوب أوراسيا خلال عصري البرونز والحديد، قال لـCNN: "النتائج، على الأقل كما وردت في المقال، تشير بقوة إلى أنّ الإجابة هي ’لا‘، وخصوصًا بالنظر إلى الكثافة المتدنية لشظايا الفخّار على السطح، وكذلك الأدلة المحدودة حول النشاط المعدني". 

وشرح جونسون أنّ "المدن كيانات مكانية وسكانية تمثّل عادة تداخلًا معقدًا بين البيئة المبنية، وكثافة السكان، والامتداد العمراني والثقافة المادية، إلى جانب عوامل اجتماعية أخرى كثيرة". 

وأوضح أنّ العدد القليل من اللقى الفخارية قد يعكس ببساطة استخدامًا محدودًا للفخار، وهو أمر شائع في مجتمعات السهوب القديمة، ما يعني أنّ الفخار قد لا يكون "الفئة الأفضل من الثقافة المادية لربطها بالكثافة السكانية التي تُميز المجتمعات الحضرية عادة".

وتابع أنّ إجراء مزيد من الأبحاث على أكوام النفايات، وهي تلال من البقايا تمنح لمحة عن حياة البشر قديمًا، إضافة إلى جمع اللقى من المناطق المحيطة بالمستوطنة، قد يساعد علماء الآثار على فهم أفضل لأنماط الاستيطان.

ورغم موافقة لورنس على أنّ الأدلة الحالية لا تكفي لاستنتاج أن المستوطنة كانت مدينة كبيرة، "أعتقد أيضًا أننا لا نستطيع نفي هذا الأمر بشكل قاطع للأسباب ذاتها"، موضحًا أنّ ندرة بقايا الفخار تعود إلى أنّ الأرض عذراء ومضغوطة بطبقات عديدة من الثلوج كل شتاء، ما يعني أنّ العديد من القطع الأثرية ما زالت ربما مدفونة تحت الأرض.

وتابع لورانس: "الأشياء تختلف في المستوطنات الحضرية عنها في الريفية. على سبيل المثال، في العصر الحديث تقصد المدينة للحصول على الصناعة الثقيلة، والمتاجر الفاخرة، أو مقر السلطة السياسية. أعتقد أنّه يمكننا القول إن سيميياركا تُعتبر مدينة بمعنى أنّها مختلفة تمامًا عن المستوطنات المحيطة وتوفر هذا النوع من الخدمات الحضرية".

وقد تكون سيميياركا دليلًا على أنّ المنطقة وجدت توازنًا بين المواقع الرعوية المتنقلة والعناصر الاجتماعية المهمة الأخرى، مثل إنتاج البرونز القصديري، إحدى أهم التقنيات في ذلك العصر، بحسب مايكل فراشيتّي، أستاذ علم الآثار في جامعة واشنطن بسانت لويس. 

وأضاف أنّ "النتائج حتى الآن تفتح العديد من التساؤلات حول الخيارات التنظيمية التي اعتمدتها مجتمعات السهوب فيما يخص المعادن، والتنظيم السياسي، والارتباط الاقتصادي على المستويين المحلي والإقليمي".

البحث عن إجابات

وأشار لورانس إلى أنّ الأدلة على المستوطنات في سهوب أوراسيا خلال العصر البرونزي قليلة، ومعظم المواقع كانت متنقلة ولم تخلّف آثارًا كثيرة، لكنّ المنطقة لم تحظَ بالكثير من الاهتمام الأثري، ويمكن أنّ يكون هناك العديد من المستوطنات غير المكتشفة بعد.

وقال مؤلفو الدراسة إنهم يأملون من خلال الأبحاث المستقبلية العثور على أدلة إضافية حول الدور المحتمل القوي لمستوطنة سيميياركا خلال العصر البرونزي، وكذلك للحصول على رؤى أوسع حول الحياة الحضرية وإنتاج المعادن في سهوب أوراسيا.