تدرك في لحظة ما أن الاستمرار في كل شيء لم يعد خياراً صحياً، وأن الإنهاك العاطفي ليس بطولة في عالم يعج بالضوضاء، والعلاقات المتقلبة، والمواقف المستنزفة، يصبح من الضروري أن نمتلك أدوات نفسية تحمينا دون أن تفقدنا اتزاننا الداخلي. التجاهل الواعي والبلوك العقلي لا يعدان انسحاباً من الحياة أو من الأشخاص، بل هما آليتان ناضجتان يعيد بهما الإنسان ترتيب أولوياته، ويمنح نفسه المساحة التي يستحقها بعيداً عن الفوضى، إنهما ببساطة: قرار نضج لا قسوة. التجاهل الواعي ليس لا مبالاة، بل مهارة، أن تتجاهل ما يربكك، ما يستفزك، ما لا يضيف إلى سلامك شيئاً… هو شكل متقدم من الذكاء العاطفي. هو قرار واعٍ بأنك لن تستهلك طاقتك في معارك جانبية لا تستحق. توقفك عن التفاعل مع ما يؤذيك، ليس ضعفاً، بل نضج في التقدير. حين تبتعد عن الحوارات التي لا تنتهي، عن الأشخاص الذين يعيدونك في كل مرة الى نقطة الصفر، عن الأشياء التي ترهقك عقلياً، فأنت بهدوء تمنح نفسك فرصة للتنفس. في علم النفس، يعتبر هذا النوع من التجاهل أحد أساليب الضبط الانفعالي، أي القدرة على ملاحظة مشاعرك، إدارة انفعالاتك، والتصرف بوعي دون الانزلاق إلى ردود فعل مؤذية لك أو للآخرين. أن تغضب دون أن تنفجر، أن تتألم دون أن تضعف، أن تختار الصمت حين يصبح الرد عبئاً لا قيمة له. أما البلوك العقلي، فهو أكثر من مجرد حذف أو حظر شخص بعينه. لا يقتصر على كبسة زر في الهاتف.. .بل هو آلية داخلية تنبع من الوعي الذاتي، تُفعل حين تشعر أن وجودك في علاقة أو موقف معين يكلفك أكثر مما يمنحك. هو حالة ذهنية متقدمة، يمارسها الإنسان تجاه الأشخاص السامين، الذكريات المرهقة، والأفكار التي تعطل نموه. ليس عداءً ولا هروباً، بل هو أنقى صور حب الذات واحترامها. أن تضع حداً لا يعني أنك قاس، بل يعني أنك لم تعد قادراً على تحمل ما لا يُحتمل. أن تنسحب دون شرح، لا يعني أنك لا تملك رداً، بل يعني أنك اخترت ألا تضيع وقتك فيما لن يفهم. كثيرون يجدون أنفسهم عالقين في علاقات سامة غير متكافئة، مطالبين دائماً بالتفهم، بالصبر، وبالاستيعاب، دون أن يسأل أحد عنهم: من يستوعب هذا الشخص؟ من يصغي له حين يتعب؟ هنا تبدأ الأزمة النفسية. وهنا تماماً تصبح أدوات مثل التجاهل الواعي والبلوك العقلي ضرورة، لا ترفاً. فنحن لسنا مطالبين بأن نكون علاجاً لكل من حولنا. أو أن نفني أرواحنا في محاولات عقيمة لإرضاء الجميع. فالحياة قصيرة، ومليئة بما يستحق أن نعيشه حقاً: ضحكة صافية، لحظة سكون، كتاب يشبهنا، صوت نحبه، جلسة مع من ينصت لنا من القلب. أما ما يُشعرك بأنك مطالب دوماً بشرح نفسك، وإثبات وجودك، وإرضاء الجميع.. .فاتركه. فأنت لست محطة وقود للآخرين، ولا زر طوارئ لمن يتذكرك فقط في أزماته. أنت إنسان.. . تحتاج إلى التوازن، إلى الهدوء، إلى ترتيب الداخل، وإلى حدود واضحة بينك وبين كل ما ينهكك دون سبب. أن تختار النور، مهما كلفك البعد عن أماكن مظلمة اعتدت عليها. امنح نفسك عطلة ذهنية من كل ما لا يشبهك، واختر من يشبه قلبك، لا من يثقلك. وتذكر دائماً: صحتك النفسية ليست قابلة للتفاوض، ومن يهدد سلامك الداخلي… لا يستحق مكاناً في محيطك، مهما كان القرب. فالأذكياء لا يبددون طاقاتهم في معارك لا تُجدي، ولا يعلقون أرواحهم بمواقف موجعة تتكرر دون نهاية. بل يختارون أن يصنعوا داخلهم مساحة هادئة، يملؤونها بما يُغذيهم فكرياً، ويبهجهم إنسانياً، ويدفعهم بثقة نحو ما يستحق الحياة. إنهم لا يهربون من العالم، بل يقررون كيف يواجهونه، ومتى، وبأي طاقة، لأنهم ببساطة.. .عرفوا أنفسهم جيداً، فحموها كما يجب.