تميّز الفريق كامل الوزير، وزير النقل، بنشاطه المكثف في متابعة مشاريع البنية التحتية في الخارج، ولا سيما زياراته المتكررة إلى الصين، حيث أبدى إعجابه الواضح بتجربتها المتقدمة في مجالات الطرق والقطارات والكباري والحافلات المكهربة. وقد تبنّى بعض هذه النماذج وحرص على تطبيقها في مصر، مؤكدًا أن البلاد تسير في طريق التحديث.
ولا شك أن الوزارة حققت في عهده إنجازات ملحوظة، خصوصًا في توسيع شبكة الطرق وإنشاء محاور جديدة ساعدت على تحسين السيولة المرورية. غير أن حوادث متكررة تبرز الفجوة بين النوايا الطموحة والتنفيذ الفعلي، وتسلط الضوء على مشاكل في الجودة والسلامة، نتيجة نسخ النماذج الأجنبية شكليا دون فهم أعمق لأسباب نجاحها.
فكثير من الطرق الحديثة، مثل الطريق الساحلي أو الإقليمي، تشبه نسخا مبسطة من نماذج صينية، لكنها تفتقر إلى معايير السلامة الأساسية، كالإشارات الواضحة، الحارات المخصصة للطوارئ، والمداخل والمخارج المنظمة. فالتقليد هنا بدا شكليا، غير معني بجوهر التصميم أو خصوصية الواقع المحلي.
على سبيل المثال، استُلهمت كباري الطريق الدائري الرابع في بكين وظهرت بصورتها على طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي، لكن مع غياب شبكة الربط الأوسع التي تجعل من هذه الكباري جزءًا من منظومة متكاملة مثلما هو موجود في الصين. فالدوران الخلفي، الذي يُعد وظيفة جزئية في النموذج الأصلي، أصبح الهدف الوحيد في التنفيذ المحلي، مع إغفال كامل لبقية العناصر المرورية التي تُدار بدقة وفق شبكة مرورية معقدة في بكين.
نفس النهج يظهر في كباري الطريق الساحلي، التي تبدو متأثرة بتصميمات الدائري الثاني في بكين، لكنها فقدت الروح الكامنة في النظام الصيني، من تنظيم الأولويات المرورية إلى دمج المسارات بالدراجات والمشاة والرقابة والإشارات، حيث تُصمم المشاريع استنادًا إلى دراسات دقيقة تشمل الكثافات المرورية، وأنماط القيادة، وسلوك المشاة. أما في مصر، فالنتائج تشير إلى تنفيذ سطحي يغفل هذه العوامل.
في تعقيبه على حادث الطريق الاقليمي بالمنوفية الذي أودى بحياة 18 زهرة صغيرة في حادث مفجع، أشار الوزير إلى أن "الطرق السريعة في الدول المتقدمة حارتان فقط"، مشيرا على ما يبدو للدائري السادس في بكين. لكن المقارنة هنا تفتقد للإنصاف، فعدد الحارات ليس المعيار الوحيد؛ إذ تتميز تلك الطرق بحارات فسيحة فضلا عن حارة طوارئ لا تقل اتساعا، وإشارات دقيقة، وأنظمة رقابة متطورة، وتطبيق صارم لمعايير السلامة.
ان ما يفتقر إليه الكثير من طرقنا ليس الشكل، بل المضمون: غياب إشارات، وضعف في ضبط السرعة، ونقص في الرقابة، وانعدام الممرات الآمنة للمشاة. ومن شأن تقليد النموذج الصيني دون مراعاة فروقات البنية السكانية أو الجغرافيا أو الثقافة المرورية، يُنتج مشاريع تبدو حديثة من الخارج لكنها غير آمنة على الأرض.
وبالرغم من هذه الإشكاليات، لا يمكن إنكار بعض النجاحات، مثل محور روض الفرج، الذي يُعد نموذجًا لمشروع نُفذ بمهنية عالية وأثر إيجابي ملموس، ما يدل على أن الإنجاز ممكن حين تتوفر الرؤية والدراسة والتنفيذ المحترف.
الرسالة الأهم أن النقل ليس مجرد إنشاء طرق وجسور، بل هو علم دقيق، يحتاج لفهم التجارب الناجحة لا تقليدها، ومراعاة الإنسان قبل الأسفلت. فالحفاظ على الأرواح يجب أن يتقدم على سرعة الإنجاز، ووضع معايير ملزمة بناء على دروس الكوارث، هو ما يصنع شبكة طرق آمنة تليق بالمصريين.
مصر قادرة على أن تبني الأفضل، إذا ما استلهمت روح التجارب العالمية لا أشكالها فقط، وتقدّمت برؤية تضع سلامة المواطن في قلب كل مشروع. فالنقل الحديث لا يكون بنقل النموذج فقط، بل بتحقيق التغيير الحقيقي على الأرض، بما يخدم التنمية ويحمي الناس.
الطريق لا يزال طويلا، ويتطلب توازنًا واعيًا بين التعلم من العالم، وتكييف الخبرات مع الواقع المحلي، لضمان أن تكون البنية التحتية وسيلة أمان لا عبور إلى المجهول اقصد الموت.


إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" النبأ "
0 تعليق