- عندما أُسدِل الستار على مسيرة بول سامويلسون، لم يفقد العالم مجرد اقتصادي حائز على جائزة نوبل، بل ودّع عقلاً فذًا أعاد صياغة علم الاقتصاد بأكمله، محولاً إياه من مجال يعتمد على السرد الفلسفي إلى علم دقيق يتحدث لغة الرياضيات الصارمة.
- لم يكن سامويلسون مجرد اسم في تاريخ الفكر الاقتصادي، بل كان المهندس الذي وضع أسس التحليل الحديث، وتُوّج عطاؤه كأول أمريكي ينال جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1970، في شهادة دولية على أن إسهاماته "رفعت مستوى التحليل العلمي في النظرية الاقتصادية" إلى آفاق لم تبلغها من قبل.
نبوغ مبكر وصعود إلى المجد
- وُلد بول أنتوني سامويلسون في 15 مايو 1915، وبدت عليه علامات العبقرية منذ نعومة أظفاره. انطلقت رحلته الأكاديمية من جامعة شيكاغو العريقة، ليحط رحاله بعد ذلك في جامعة هارفارد حيث نال درجة الدكتوراه عام 1941.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- لم تكن أطروحته مجرد بحث عادي، بل كانت الشرارة التي أضاءت الطريق لعمله الخالد "أسس التحليل الاقتصادي"(1947)، الكتاب الذي أصبح حجر الزاوية الذي لا غنى عنه لفهم الاقتصاد الحديث.
- في سن الخامسة والعشرين، وفي خطوة غيّرت تاريخ الفكر الاقتصادي، انضم سامويلسون إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ليبدأ مسيرة أسطورية حوّل خلالها المعهد إلى أهم قلعة للفكر الاقتصادي في العالم، وألهم الأجيال من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد منارات في هذا العلم.
"الاقتصاد": الكتاب الذي وحّد لغة العالم
- لعل الإنجاز الأكثر شهرة لسامويلسون، والذي عبر به أسوار الأوساط الأكاديمية، هو كتابه الجامعي الأيقوني "الاقتصاد: تحليل تمهيدي" (1948).
- لم يكن هذا الكتاب مجرد مقرر دراسي، بل تحول إلى ظاهرة عالمية. وبطباعته 19 مرة وترجمته إلى 40 لغة، أصبح بمثابة "المرجع الاقتصادي" لملايين الطلاب وصناع السياسات، مقدمًا لهم مبادئ الاقتصاد المعقدة بأسلوب يجمع بين السلاسة والعمق الفكري.
ثورة المنهج: عندما تتكلم الأرقام
- يكمن جوهر الثورة التي أحدثها سامويلسون في إدخاله لغة المنطق الرياضي إلى قلب التحليل الاقتصادي؛ ففي كتابه "أسس التحليل الاقتصادي"، أثبت ببراعة أن معظم القضايا الاقتصادية يمكن صياغتها كمسائل رياضية تبحث عن الحل الأمثل في ظل القيود المتاحة.
- لم يكن هذا المنهج مجرد أداة، بل أصبح النموذج السائد الذي يقوم عليه البحث الاقتصادي حتى يومنا هذا.
- ومن أعظم إسهاماته، تقديمه لما يُعرف بـ "التركيب النيوكلاسيكي" (Neoclassical Synthesis)، حيث بنى جسرًا فكريًا عبقريًا بين الاقتصاد الجزئي الكلاسيكي الجديد (الذي يؤمن بكفاءة الأسواق) والاقتصاد الكلي الكينزي (الذي يرى ضرورة تدخل الدولة).
- ولا تزال هذه الرؤية المتوازنة تشكل العمود الفقري للفكر والسياسات الاقتصادية السائدة اليوم.
بصمات العبقرية في مفاصل الاقتصاد
توزعت بصمات سامويلسون على كافة فروع الاقتصاد، ومن أبرزها:
نظرية "التفضيل المُكتشَف": وهي فكرة ثورية تقترح أنه بدلاً من تخمين ما يريده المستهلكون، يمكننا استنتاج تفضيلاتهم الحقيقية ببساطة عبر مراقبة خياراتهم الشرائية في السوق.
نظرية "السلع العامة": وضع الأسس الرياضية لفهم كيفية تمويل السلع التي يستفيد منها الجميع، وحدد الشروط المثلى لتوفيرها.
فرضية "كفاءة السوق": قدم براهين رياضية تدعم الفكرة القائلة بأن أسعار الأصول تتحرك بشكل عشوائي يصعب التنبؤ به، وهو ما شكل أساس المالية الحديثة.
شرح الدورات الاقتصادية: صاغ النماذج الرياضية التي تشرح ظاهرة الركود والازدهار عبر تحليل التفاعل الديناميكي بين تأثيري "المضاعف" و"المُعجِّل".
من قاعات الدرس إلى أروقة السلطة
- لم تبق عبقرية سامويلسون حبيسة الأبراج العاجية الأكاديمية، بل امتد تأثيره إلى أروقة صنع القرار في واشنطن.
- كان سامويلسون مستشارًا اقتصاديًا موثوقًا للرئيسين جون كينيدي وليندون جونسون، وقدم خبرته لوزارة الخزانة ومكتب الميزانية.
- وفي لفتة تقدير بالغة، منحه الرئيس بيل كلينتون الميدالية الوطنية للعلوم عام 1996، مشيدًا بـ "إسهاماته الأساسية في علم الاقتصاد" على مدار ستة عقود.
نهاية رحلة عملاق
- في 13 ديسمبر 2009، رحل بول سامويلسون عن عمر يناهز 94 عامًا، تاركًا خلفه إرثًا لا يُمحى. لم يكن مجرد معلم أو باحث، بل كان المؤسس الذي لم يكتفِ بتفسير العالم، بل منحنا الأدوات الرياضية اللازمة لتغييره.
- رحل سامويلسون، لكن المعادلة التي صاغها لعلم الاقتصاد لا تزال هي اللغة التي يتحدث بها العالم، موقّعة باسم المهندس الذي حوّل الفلسفة إلى علم، والنظرية إلى أداة لتغيير الواقع.
المصدر: إنفستوبيديا، الموسوعة البريطانية
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" ارقام "
0 تعليق