كان الشيخ الغزالي رحمه الله، على إخلاص عظيم لله، فقد نافح بقلمه عن الحق، وجعل منه سيفًا تحدى به الباطل، وزاد به عن حياض الإسلام.. ولا أستطيع أن أنسى ما كتبه في مقدمة كتابه الجليل القدر (الإسلام في وجه الزحف الأحمر) تأمل معي هذه الكلمات التي يفوح منها الحب والإخلاص العميق لهذا الدين والفدائية السامية في نصرته، وتعكس في معانيها هذه الغيرة الشديدة على قيمه وشرائعه والتأهب الكامل لقتال أعدائه في معركة القلم، يقول الشيخ الغزالي:
(رأيت أن أكتب هذه الصحائف الحافلة بالحقائق العلمية والتاريخية وأودعتها صرخات قلب غيور على دينه شفيق على أمته.. وأعرف أنني بكتابتها سأتعرض لعداوات مميتة، ولكن بئست الحياة أن نبقى ويفنى الإسلام.!)
يكتبها وهو يعرف أنها قد تصيبه في نفسه وتحرك عليه الأحقاد، وتشعل قلوب المتآمرين حنقاً وغلا عليه.. لكنه لا يخاف، فهو يكتبها حسبة لله تعالى.. لأنه نذر قلمه لله، وجعل منه سيفا يقاتل به الطغيان مهما كان نفوذه وسلطانه.. وأرى أن هذا الاخلاص العظيم كان أحد أهم الاسباب التي خلدت هذه الكتب، وصار أدب صاحبها يتلهف عليه القراء، ويقتنون هذه الكتب التي لا تعلم العلم وحده، وإنما تعلم المسلم معنى الغيرة على الدين، ومعنى أن يكون رجلا شريفا يتحمل المسؤولية التي يلقيها عليه دينه.
لكني أعود وأقول أن مسألة الإخلاص وحدها، ليست هي المقياس أو الحكم على الأعمال الجيدة، أو الشريطة التي تضمن لها البقاء والخلود، ولعل هذه الكتب التي كتب لها البقاء في الدنيا، كانت تلبي حاجة قطاع كبير من المثقفين، فهناك كتب أخرى إبداعية عرفناها في مطالع الشباب، وأخذت تندثر وتنتهي بموت أصحابها، وأذكر وأنا طالب في كلية أصول الدين، أن الطلاب كانوا يتهافتون على شراء كتب الدكتور (محمود عمارة) وكل كتاب يصدر كان نبأه يدوي بين الشباب فيسارعون لاقتنائه، وبموت الرجل ما صار أحد يسمع بكتبه، أو يدري أين هي، وانتهت بموت صاحبها.! وظل اسمه ذكرى لمن يعرفونه فقط، وأنا أتعجب لماذا يغفل الأزهر نفسه عن إعادة طباعة هذه الكتب التي كتبها أعلامه وكبار علمائه، من الواجب الكبير على هذه المؤسسة العظيمة أن تحافظ على أسماء أبنائها وتراثهم، وتعيده للوجود مرة أخرى، أعرف أن العلامة الدكتور (أحمد الشرباصي) كان يملأ الدنيا ببيانه وكتبه التي قيل: إنها فاقت المائة كتاب، ولكن أين هي الآن، ومن يعرف الدكتور الشرباصي نفسه؟
بل أرى أن تقوم وزارة الثقافة، بإحياء كثير من كتب العمالقة الذين اندثرت آثارهم، وطويت أسماءهم، وكثير من الكتاب كانت تنتر أقلامهم بالإبداع، وكتبوا كثيرا من المقالات والدوريات والأعمدة في الصحف، وتحتاج اليوم لمن يجمع هذه الآثار، في كتب ويقدمها للجمهور والوجود، وقد قيل أن من حسن حظ العملاق العقاد، أن ابن شقيقه عامر العقاد كان رجلا نشيطا واجتهد في جمع تراثه الأدبي والسياسي، ونشره في كتب قيمة، وكذلك الدكتور هيكل كان ابنه أحمد هيكل المحامي يجمع بعض ما كتبه والده، والشيخ الديب علي الطنطاوي تجتهد ذريته من آل ديرانية في نشر كتبه وطبعها وولادتها من جديد، ولكن هؤلاء يعدون على الأصابع، فقد كانت لهم ذرية أو محبين أحيوا ذكراهم وفكرهم، أما الذين لم يورثوا أحدا بضاعتهم، فإن تراثهم قد انتهى بموتهم.
ولعل بعض الحكومات ترى في كتب بعض المؤلفين ما يخدم أغراضها فتعيد طباعة كتبه، حتى تشكل عقول الأجيال حسب ما تريد وتهوى وترى سياستها، كأن تنشر الفكر العلماني مثلا فتعيد نشر كتب العلمانيين، أو أن تريد أن تهز مكانة الدين في نفوس الناشئة، فتعيد نشر كتب الملاحدة، أو أن تريد صرف الناس عن تيار ديني ترى فيه خطورة عليها فتعيد طباعة وترويج كتب وأفكار الصوفية التي ترفض الصدام مع الحكام حتى ولو كانوا ظالمين وترى أن تؤاكلهم وتؤانسهم وتصادقهم وتعيش في أكنافهم وتدعو لهم وتباركهم.
وقد تخدم الظروف بعض العلماء والمؤلفين، فتتسبب في إعادة نشر كتبهم مرة، أخرى كأن تنتشر بعض الأفكار التي كان هذا العالم أو الكاتب تحدث عنها فيما سبق وأولاها من عنايته وقلمه، وتناول طرق علاجها وتفاصيل التعامل معها وأسباب نموها وكيفية التصدي لها.. ومن هنا يعاد ذكره للوجود مرة أخرى، وفي فترة الثمانينات والتسعينات أقبل شباب الجماعات الدينية على كتب الإمام ابن تيمية لأنه رحمه الله تناول قديما كيف تكون العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأوغل في الحديث عن مبطلات العقيدة والحكم بغير ما أنزل الله، فكانت هذه الكتابات تغذي فكرهم وإن كانوا ينحون منحى آخر غير الذي كان عليه ابن تيمية، لقد أقبلوا عليها والتهموها بجنون وأحيوا سيرة الرجل وصار القاصي والداني يعرف اسمه ولكن للأسف كانت هذه المعرفة ممزوجة بالتطرف ، فقد كان رحمه الله من أئمة الهدى وأعلام الهداية..
بالبلدي | BeLBaLaDy
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" المصريون "
0 تعليق