تعد العلاقات المصرية– السودانية من أكثر العلاقات تعقيدا في الإقليم، نظرًا لتشابك مصالح البلدين، وتراكم الذاكرة التاريخية، واختلاف أولويات كل طرف في لحظات سياسية متغيرة. ومع التحولات العميقة التي يشهدها السودان منذ اندلاع الحرب، وما ترتب عليها من انهيار مؤسساتي وتمزق اجتماعي، تتزايد الحاجة إلى إنتاج معرفة دقيقة ومتوازنة، تساعد القاهرة والخرطوم على تجاوز حساسية الملفات المشتركة، وصياغة مسارات تعاون عملي ومستدام. وهنا يبرز الدور المركزي لمراكز التفكير والبحث، بوصفها أدوات معرفية يمكن أن تعيد هندسة العلاقة بين البلدين على أساس الفهم المتبادل، وتجاوز سوء الإدراك، وبناء سياسات تعكس مصالح الطرفين في آن.
في هذا السياق من المهم، رصد أننا نتجاوز مرحلة دقيقة تتشابك فيها أبعاد الأمن الإقليمي مع التحولات الداخلية العميقة في السودان، منذ اندلاع الحرب. وبينما تركز القاهرة على حماية أمنها القومي والاستفادة من عمقها الاستراتيجي، يواجه السودان تحديات وجودية، من فراغ مؤسساتي، وتعدد القوى الفاعلة، وانعكاسات الصراع على المجتمع المدني والاقتصاد. وفي هذا السياق، تبدو مراكز التفكير والبحث كأداة استراتيجية قادرة على توفير فهم معمق للطرفين، وتقديم رؤية متوازنة تساعد على صياغة سياسات، تعكس مصالح مصر والسودان معًا، بعيدًا عن قراءة أحادية الجانب.
وطبقا لذلك، فإن إعادة بناء العلاقات المصرية– السودانية تتطلب رؤية استراتيجية، تتجاوز اللحظة الراهنة، وتستثمر في المعرفة كأداة لإدارة المخاطر واستشراف المستقبل. ومراكز التفكير، بقدرتها على إنتاج التحليل متعدد المصادر وصياغة بدائل السياسات، هي الأقدر على قيادة هذا التحول. فهي توفر جسرًا بين الدولة والمجتمع، وبين البلدين، يسمح بإعادة تعريف المصالح المشتركة، وتخفيض مستوى الحساسية، وتكريس التعاون في كافة المجالات.
وفي لحظة إقليمية مضطربة، يصبح الاستثمار في هذه المراكز ليس ترفا فكريا، بل ضرورة استراتيجية للطرفين. فهي تعد أداة لتجاوز سوء الفهم والتاريخ السياسي المثقل، ولإعادة تشكيل العلاقات المصرية– السودانية على أسس من الثقة والشفافية والفهم المتبادل، بما يخدم استقرار البلدين والتنمية المشتركة في المدى البعيد.
من منظور مصري، يعد استقرار السودان ركيزة للأمن القومي، بحكم الجغرافيا والحدود والتداخلات الاجتماعية، إضافة إلى التأثير المباشر للصراع السوداني على أمن البحر الأحمر، والهجرة، والتجارة. لكن الرؤية المصرية غالبًا ما تُقرأ سودانيًا، باعتبارها تعبيرا عن رغبة في الهيمنة أو النفوذ. ومن ثم، يصبح من الضروري أن توفر مراكز التفكير المصرية مقاربات دقيقة تفهم الحساسية السودانية تجاه مسألة السيادة، وتدرك أن أي سياسة ناجحة لا يمكن أن تبنى على فرضيات قديمة.
وفي المقابل، يحتاج السودان— بمكوناته السياسية والمجتمعية المختلفة— إلى بناء وعي أوضح بالمصالح المصرية، بعيدًا عن الصور النمطية التي ترى في القاهرة فاعلًا، يسعى لتوجيه خياراته الداخلية. فمصر معنية بالتوازن الإقليمي وحماية حدودها الجنوبية، وفي الوقت ذاته، مستعدة لتعزيز شراكات اقتصادية وتنموية، إذا توفر الاستقرار والشريك المؤسسي. لذلك تلعب مراكز البحث السودانية دورًا ضروريًا في تفسير الديناميات المصرية للرأي العام السوداني، وخلق قنوات حوار تعيد تقديم القاهرة كطرف يسعى إلى التعاون وليس الهيمنة.
وقد يسهم الدمج بين الرؤيتين في خلق مساحة جديدة للعمل المشترك عبر مراكز التفكير. إذ تملك هذه المؤسسات القدرة على إنتاج سردية مشتركة، تقوم على الاعتراف المتبادل بالمصالح الوطنية وضرورة احترامها، وتحديد نقاط الالتقاء بدل تضخيم مساحات الخلاف. فالمراكز البحثية، بخلاف المؤسسات الرسمية، تمتلك مرونة الحوار مع الأطراف المختلفة، بما في ذلك النخب السودانية، وقادة المجتمع المدني، وممثلو الأقاليم، ورجال الأعمال، الذين يعكسون مصالح متنوعة، لا يمكن لصانع القرار المصري تجاهلها.
وفي الجانب الاقتصادي، يمتلك السودان موارد زراعية ومعدنية ضخمة، يبحث عن استثمارات حقيقية لتطويرها، بينما تواجه مصر تحديات مرتبطة بالأمن الغذائي، وتحتاج إلى شراكات ذات عمق استراتيجي. ويمكن لمراكز التفكير أن تضع خرائط استثمار دقيقة، تعيد صياغة التعاون بعيدًا عن الشكوك السياسية، عبر بناء نماذج تشاركية شفافة، تحمي حقوق السودان في موارده، وتضمن لمصر استدامة إمداداتها الحيوية. ومن خلال تحليل التجارب الدولية، يمكن للمراكز تقديم مقترحات عملية لمنع اختلال ميزان القوة في أي مشروع مشترك، بما يعزز الثقة ويخفف الرواسب التاريخية.
وتبرز أهمية هذه المراكز أيضًا في إدارة ملفات الأمن الإقليمي. فبينما تسعى مصر إلى عدم تحول السودان إلى ساحة نفوذ لمنافسين إقليميين، يخشى السودان، من أن تتحول أولوياته الأمنية إلى ورقة تفاوض في يد قوى أكبر. وهنا تأتي أهمية المقاربات البحثية التي تربط بين الأمن والتنمية، وتقدم خيارات متعددة، تتجنب المبالغة في قراءة التهديدات، وتطرح حلولا قائمة على التعاون المشترك، وتأمين الحدود، ومكافحة الإتجار بالبشر، دون المساس باستقلال القرار السوداني.
كما يمكن لهذه المؤسسات أن تعيد بناء صورة كل طرف لدى الآخر، بوصفها مساحات لخفض التوتر وتصحيح الصور الذهنية. فالرأي العام السوداني تأثر بشدة بالخطاب السياسي والإعلامي خلال الحرب، وأصبحت مصر تُقرأ أحيانًا كطرف منحاز أو متردد. ويمكن للدراسات الرصينة أن تكسر هذه التصورات عبر تقديم قراءات معمقة للسلوك المصري، تشرح دوافعه الاستراتيجية وحدوده الموضوعية. وفي المقابل، تساعد المراكز المصرية في تقديم فهم دقيق لتعقيدات الوضع السوداني، وتعدد الفاعلين، وتنافسية القوى المسلحة، والانقسامات الاجتماعية، بما يمنع بناء سياسات مصرية على تصورات مختزلة أو غير واقعية.
وهكذا تلعب مراكز التفكير دورًا مزدوجًا، يجمع بين إنتاج المعرفة القابلة للاستخدام السياسي، وبين بناء قنوات تواصل مع الأطراف السودانية المتنوعة، بما في ذلك مؤسسات الدولة، والنخب السياسية، والمجتمع المدني. هذه المراكز تمتلك القدرة على تقديم تحليل شامل، يعكس مخاوف السودان المتعلقة بالسيادة، ويوازنها مع القلق المصري حول الأمن الحدودي والمصالح الاستراتيجية، ما يتيح إنتاج توصيات سياسية أكثر دقة وواقعية، قابلة للتطبيق، وتخفف من أي شعور بالاستهداف أو الإقصاء لدى الطرف السوداني.
ولا يقتصر دور المراكز على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يشمل إنتاج سرديات مشتركة حول الأمن الإقليمي والتعاون الاستراتيجي. ففي الوقت الذي تتطلع مصر إلى استقرار حدودها الجنوبية، يحرص السودان على ضمان عدم استغلال الصراعات الإقليمية للضغط على سيادته أو شل خياراته الاستراتيجية. ومن هنا، تأتي أهمية التحليل المتوازن الذي يعكس مصالح الطرفين، ويطرح حلولًا للتحديات الأمنية دون المساس بسيادة السودان، مع إيجاد طرق لتعزيز الثقة بين الجانبين عبر حوارات غير رسمية ومنتديات مشتركة، تستهدف النخب والفاعلين المؤثرين، بما في ذلك القطاع الخاص والمنظمات الأهلية.
كما يمكن لهذه المراكز أن تسهم في إعادة بناء صورة كل طرف لدى الآخر. فالرأي العام السوداني، في ظل الصراع الداخلي والتدخلات الإقليمية، غالبًا ما ينظر بعين الحذر إلى القاهرة، ويخشاها كطرف قوي، قد يسعى لتكريس النفوذ. ومراكز البحث توفر أرضية علمية لتقديم معلومات دقيقة حول نوايا مصر، وتوضيح أن التعاون المبني على المصالح المشتركة والتنمية المستدامة هو هدف استراتيجي متبادل. وفي المقابل، يمكن للمراكز البحثية مساعدة القاهرة على فهم الانقسام الداخلي في السودان، ومخاوف الشركاء المحليين، وما يمثله كل فصيل من مصالح حقيقية، لا يمكن تجاهلها في صياغة أي سياسة مصرية.
إن تجاوز التحديات التاريخية في علاقات البلدين يتطلب رؤية استراتيجية متوازنة، تدمج بين الأمن والتنمية، بين مصالح مصر الوطنية، وبين أولويات السودان في الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ومن هنا، يظهر الدور المحوري لمراكز التفكير، ليس فقط كأدوات إنتاج معرفة، بل كمنصة لإعادة هندسة العلاقة بين القاهرة والخرطوم على أسس من الاحترام المتبادل، والفهم العميق للواقع المعقد لكل طرف، وإيجاد نقاط التقاء عملية، تعزز التعاون في مجالات متعددة، من الزراعة والطاقة والبنية التحتية إلى التبادل الثقافي والإعلامي وغيره من مجالات التعاون.
في لحظة سياسية حساسة مثل اللحظة الراهنة، يبرز الاستثمار في المراكز البحثية كأولوية استراتيجية للطرفين، إذ توفر قدرة على التنبؤ بالتحولات، وإدارة المخاطر، وصياغة حلول مبتكرة تراعي مصالح مصر والسودان معا، وتفتح المجال لشراكات مستدامة، تقوم على المعرفة، والثقة، والرؤية المشتركة للمستقبل.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" masr360 "







0 تعليق