في زمن أصبحت فيه التقنيات هي سيد الموقف، وعالمنا ينسج خيوطه بسرعة هائلة من الاتصالات والتطبيقات الرقمية، يظهر نوع جديد من المافيا الرقمية. هؤلاء المحتالون لا يقتصرون على عمليات سرقة عابرة، بل أصبحوا يمتلكون أدوات وطرقاً تُعدّ من أخطر الأسلحة في تاريخ الإجرام. تحركهم أنظمة منظمة، وتُسخر لهم تقنيات لا يُمكن تصورها، لتنفيذ خدع تبتلع ملايين الدولارات، وتدمر مصداقية وموثوقية المؤسسات، وتزرع الرعب في قلوب الملايين، وتدمر الاقتصاد.
هل تعلم أن الأرقام تتحدث، وأن حجم تهديدات المافيا الرقمية يفوق التصور؟
هل تعلم أن التقديرات تشير إلى أن الخسائر العالمية من جرائم الاحتيال السيبراني ستتجاوز 15 تريليون دولار أمريكي سنوياً بنهاية 2025؟ أرقام مرعبة تعادل ستة أضعاف ميزانية فرنسا وبريطانيا مجتمعتين لعام 2024، مع تزايد مستمر وتطور دائم في الأساليب، ليصبح المشهد أكثر رعباً وأسرع تهديداً.
وفي خضم المعركة، تبرز شبكات إجرامية تمتلك مخططات منظمة، ونماذج تجارية فعالة بشكل مذهل. شبكات تدار كأنها شركات كبرى، تستخدم استراتيجيات ذكية، وتحول عمليات الاحتيال إلى صناعة مربحة تتجاوز أرباح أسواق المخدرات المقدرة بين 472 و507 مليارات دولار أمريكي، وفقاً لتقرير UNODC لعام 2023.
ويُظهر تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) أن خسائر الاحتيال عبر الإنترنت وصلت إلى 10.3 مليار دولار أمريكي في 2023، مع توقعات بازدياد هائلة. والأمر الأخطر أن المحتالين لم يعودوا يقتصرون على الطرق التقنية التقليدية، بل استغلوا الذكاء الاصطناعي، وتقنية التزييف العميق (Deepfake)، لينتجوا مقاطع فيديو وأصوات مزيفة، تُشبه الحقيقة إلى درجة أن التعرف عليها أصبح شبه مستحيل.
هل تصدق أن شبكات المافيا الرقمية تستخدم نماذج أعمال منظمة ومحكمة، تتفوق على شركات البيع الكبرى؟
أحد أهم نماذج الأعمال المستخدمة من قبل المحتالين هي مراكز الاتصال الاحتيالية، التي تعمل بشكل منسق، وتروّج لمنتجات وخدمات وهمية، عبر الآتي:
• مكالمات هاتفية تستهدف الضحايا بأرقام مزورة، تبدو كأنها من جهات رسمية أو بنوك معروفة.
• رسائل نصية وبريد إلكتروني مخادع، تتنقل من جهاز إلى جهاز، وتُخدع من خلالها العقول غير المدربة.
• شبكات VPN، تُشفر مكانك، وتحجب هويتك، لتمرر عملياتهم بكل أمان.
• ابتكار أساليب الإقناع والخداع، وتطوير سيناريوهات تنطلي على الضحايا بسرعة.
والمعروف أن أنشطة هذه المراكز تتمثل في إعداد فرق مدربة على التلاعب النفسي، ووضع خطط محكمة لتحويل الأموال، سرقة البيانات، أو الابتزاز، وكل ذلك من خلال قواعد بيانات شخصية ضخمة، وأنظمة اتصال حديثة، وخبراء متمكنين في التلاعب العقلي.
كيف تنفذ المافيا الرقمية عملياتها؟ وما هي الموارد التي يعتمدون عليها لبناء المراكز؟
وتختلف مستويات الأداء لهذه المراكز بناء على الموارد الرئيسية المتاحة لها والتي تعتمد على الخبرة والقوة المالية، ومن أهمها:
• جمع البيانات الشخصية للفئات المستهدفة بطرق متعددة.
• بناء قواعد بيانات ضخمة للبيانات الشخصية للفئات المستهدفة.
• أنظمة اتصال وبرمجيات لتوجيه المكالمات بشكل آلي وجذاب للفئات المستهدفة.
• خبراء في التلاعب النفسي يملكون القدرة على الإقناع.
• رصد الأحداث والمناسبات التي تساعدهم على استهداف فئات محددة في أوقات معينة.
كيف ستتحول هذه التهديدات؟
حالياً، يتم العمل على تطوير نماذج تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، بحيث تكون قادرة على صياغة سيناريوهات ابتكارية وواقعية، وتوظيف تقنيات التزييف العميق لجعلها أكثر إقناعاً. كما يتم استهداف الضحايا المحتملين عبر الاتصال والدردشة التفاعلية باستخدام الذكاء الاصطناعي، في محاولة لأتمتة عمليات الهندسة الاجتماعية وجمع البيانات الشخصية بشكل ابتكاري.
هل الاستراتيجيات الحالية قادرة على التعامل مع هذا الوحش الرقمي؟
تشير جميع الأحداث والتقارير الحديثة إلى أن الاحتيال المالي في تطور سريع، ويحتاج لمواجهة متجددة تواكب التطور التقني. هذه التحديات الجديدة تؤكد الحاجة إلى استراتيجيات أمنية مرنة ومبتكرة، تعتمد على تطوير استراتيجيات الوقاية، والاستثمار في أدوات الكشف المبكر والتعلم الآلي، وبناء تحالفات استراتيجية مع الجهات الأمنية في الدول النظيرة والمؤسسات المالية الدولية، وإعادة تشكيل مراكز استقبال البلاغات المختلفة، وتبنّي الوعي المبتكر المستمر لدى المستخدمين، وبناء وحدات بحثية في الجامعات المختصة. فالحماية من الاحتيال المالي لن تكون ممكنة إلا إذا تمكنت المؤسسات والأفراد من التعامل مع الأساليب الجديدة، وتعزيز دفاعاتهم بشكل دائم لمواجهة هجمات ذكية ومتطورة.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" جريدة عكاظ "









0 تعليق