belbalady.net يطفو ملف الديون على سطح الأولويات كواحد من أكثر التحديات إلحاحاً التي تواجه الدول النامية؛ فمع تصاعد الضغوط المالية، صارت مسألة الاقتراض عبئاً مزمناً يقوّض استقرار الاقتصادات ويحدّ من قدرتها على الاستثمار في مستقبل شعوبها.
وفي وقت تتكثف فيه المبادرات الدولية لتقديم الدعم المالي أو شطب بعض الديون، إلا أن فجوة الثقة لا تزال قائمة، لا سيما في ظل تباين المصالح بين الدول الدائنة وتلك المدينة. إذ تحاول بعض القوى الكبرى تسويق المساعدات على أنها "إنقاذ اقتصادي"، فيما يُنظر إليها من جانب آخر كأدوات لتعزيز النفوذ وكسب الولاءات السياسية أو الوصول إلى الموارد الحيوية.
تتفاقم هذه المعادلة المعقدة وسط نظام مالي عالمي يبدو أحياناً غير عادل، حيث تواجه الدول ذات الاقتصادات الهشة صعوبة متزايدة في الوصول إلى التمويل بشروط ميسّرة، بينما تُثقل كاهلها أسعار فائدة مرتفعة وشروط إصلاح صارمة.
في هذا السياق، تتعدد المسارات، من إعادة جدولة الديون، إلى إصلاحات هيكلية مؤلمة، مروراً بمبادلات الدين مقابل التنمية، لكن يبقى التحدي الأساسي في قدرة الدول على فرض أولوياتها، وتحقيق معادلة التوازن بين التمويل الخارجي والاستقلال الاقتصادي الحقيقي.
عبء الديون
في هذا السياق، يشير تقرير لـ "نيويورك تايمز" إلى أنه في اجتماع قمة عُقد في روما الشهر الماضي، أعلنت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، أن الاتحاد الأوروبي يعمل على خطة بملايين الدولارات لتخفيف عبء الديون عن أفريقيا. وجاءت هذه الخطوة في أعقاب خطة إنقاذ بقيمة 15.5 مليون دولار من المملكة العربية السعودية وقطر لسوريا، مما أدى إلى شطب ديون البلد الذي مزقته الحرب للبنك الدولي، ومساعدة دولة مجاورة في المنطقة على إعادة الإعمار.
يصف التقرير هذه الخطوات بـ "الضئيلة"؛ بالنظر إلى حجم الديون الباهظة التي تبلغ 8.8 تريليون دولار والتي تثقل كاهل الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل. في وقت تنفق فيه العديد من هذه الدول على مدفوعات الفوائد أكثر مما تنفقه على المدارس والرعاية الصحية.
ويوضح التقرير أن انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من المنظمات متعددة الأطراف وبرامج الإغاثة، بالإضافة إلى التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، يعيق الجهود المشتركة لمعالجة مشكلة الديون المتفاقمة.
ولكن مع انسحاب أغنى دولة في العالم، فإن الصين قد تفعل المزيد لتخفيف الضغوط على الاقتصادات المتعثرة، حسبما يقول الخبراء.
لم تُقرض أي دولة أخرى أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية أكثر مما قدمته الصين. فبعد موجة إقراض بدأت في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين واكتسبت زخماً في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تُمثل الصين الآن ما يقرب من ثلث سداد القروض التي تُسددها دول هذه المناطق.
ونقل التقرير عن مدير مركز سياسة التنمية العالمية بجامعة بوسطن، كيفن غالاغر، قوله إن قرار الصين بتقديم المزيد من الإعفاءات من الديون قد يكون "عامل تغيير بالنسبة للفقراء والنظام". وأضاف أن "هذا يصب في مصلحة الصين الاستراتيجية".
- منذ انتخاب ترامب، كثفت الصين جهودها لزيادة نفوذها بين الدول النامية وتعزيز مكانتها كزعيم عالمي من خلال التجارة والاستثمار والقمم الدولية .
- وجد تقرير صدر مؤخرا عن معهد لووي، وهو مركز أبحاث أسترالي، أنه في حين خفضت الصين قروضها بشكل كبير، فقد زادت بكين من قروضها للأماكن التي لديها فيها مصالح سياسية أو استراتيجية، بما في ذلك الدول المجاورة مثل لاوس وباكستان وكازاخستان.
- كما مُنحت هندوراس ونيكاراغوا قروضًا جديدة بعد أن قطعت حكومتاهما علاقاتهما الدبلوماسية مع تايوان لصالح الصين.
- الدول الأخرى المستفيدة من القروض الصينية هي اقتصادات نامية تمتلك احتياطيات من المعادن الأساسية أو معادن البطاريات، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وإندونيسيا.
الدين العام العالمي
بحسب بيانات منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)،فإن:
- الدين العام العالمي ارتفع إلى 102 تريليون دولار في العام 2024.
- تمثل البلدان النامية ما يقرب من ثلث هذا المبلغ - 31 تريليون دولار - ودفعت مبلغاً قياسياً قدره 921 مليار دولار من الفوائد، مما أدى إلى إجهاد الميزانيات وتعريض الخدمات العامة الحيوية للخطر.
- في أحدث إصدار من سلسلة تقاريرها " عالم الديون "، لاحظت المنظمةأن الدين العام في البلدان النامية نما بسرعة مضاعفة مقارنة بالدول الأكثر ثراء منذ عام 2010.
ويشير التقرير إلى أنه يمكن أن يكون الدين أداةً فعّالة لتمويل البنية التحتية وتحسين مستوى المعيشة. ولكن عندما يصبح ضخماً جداً أو مكلفاً للغاية، فإنه يعيق الاقتصادات ويقوّض التنمية.
كما يشير إلى أن البلدان - وخاصة تلك الموجودة في العالم النامي - تحتاج بشكل عاجل إلى طرق أكثر استدامة وبأسعار معقولة لتمويل المستقبل.
تحديات متزايدة
من جانبه، يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- "تواجه الدول النامية تحديات متزايدة في التعامل مع ديونها، خصوصاً في ظل ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا، ما شكّل ضغطاً كبيراً على اقتصاداتها المثقلة بالمديونية".
- هناك عدة مسارات تتبعها هذه الدول للتعامل مع أعباء الدين. ففي كثير من الأحيان، تسعى إلى إعادة جدولة الديون، لا سيما في ظل تحسّن بعض الظروف الاقتصادية. ومع بداية دورة خفض أسعار الفائدة، باتت هذه الدول تطلب إعادة جدولة مشروطة بتخفيض الفوائد، ما يخفف من كلفة خدمة الدين.
- إضافة إلى ذلك، تتجه الدول النامية نحو طلب الدعم المالي من مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي. وغالباً ما تُمنح هذه المساعدات على شكل قروض ميسّرة تسهم في تقليص عبء الدين وخفض الفوائد المترتبة عليه.
- كما تدخل في هذا الإطار مؤسسات مثل الصندوق الأوروبي للتنمية، إضافة إلى صناديق دعم من دول مثل الهند أو الصين. هذه القروض أو المساعدات تتيح متنفساً مالياً للدول النامية، لكنها ترتبط غالبًا بإصلاحات هيكلية مطلوبة.
ويضيف: "ومن بين الحلول المهمة أيضاً، إعادة هيكلة الأنظمة المالية والقطاعات الاقتصادية لتقليص العجز المالي، إلى جانب أولوية قصوى وهي مكافحة الفساد، الذي يُعدّ من أبرز التحديات التي تعيق التنمية الاقتصادية في هذه الدول؛ فمكافحة الفساد تسهم بشكل مباشر في خفض مستويات الدين وتقليص العجز في الموازنات العامة".
ويستطرد يرق:
- "لا يمكن تجاهل حقيقة أن القوى الكبرى غالباً ما تسعى لاستغلال الموارد الطبيعية للدول النامية مقابل تقديم تسهيلات ائتمانية أو مساعدات مالية".
- غالباً ما يكون هناك ارتباط بين هذه المساعدات وامتلاك الدولة لموارد أولية أو مواقع استراتيجية مثل الموانئ أو المطارات.
- في المحصلة، فإن الضغوط الاقتصادية، بما فيها أزمة الديون، تُستخدم من قبل بعض الدول الكبرى كوسيلة لتعزيز موقعها التفاوضي مع الدول النامية، وهو ما يتطلب من هذه الأخيرة قدرًا أكبر من الحوكمة الرشيدة والاستقلالية في القرار المالي والاقتصادي."
معضلات أساسية
بدوره، يوضح خبير أسواق المال، محمد سعيد، في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن:
- الديون المتراكمة باتت تمثل واحدة من أعقد المعضلات التي تواجه الدول النامية، وتهدد بشكل مباشر استقرارها الاقتصادي وقدرتها على مواصلة مسار التنمية.
- رغم أن أزمة الديون ليست جديدة، إلا أنها تزداد تفاقماً مع كل متغير عالمي، من ارتفاع أسعار الفائدة، إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، لتصبح واقعاً ملموساً يطال حياة الملايين.
- في مواجهة هذا التحدي، تلجأ العديد من الدول إلى الخيار الأول المتاح دائماً، وهو المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
- هذه المؤسسات تقدّم قروضاً عاجلة تُسهم في تجنّب الانهيار الاقتصادي الفوري، لكنها ترتبط بشروط إصلاح هيكلي تُوصف كثيراً بأنها "مؤلمة" على المدى القصير.
- من أبرز هذه الشروط: تحرير سعر الصرف، ورفع الدعم، وتقليص الإنفاق الحكومي، بهدف استعادة ثقة المستثمرين.
- لكن واقع التطبيق يُظهر أن هذه السياسات قد تؤدي إلى أعباء اجتماعية خانقة، إذا لم تُنفذ بحكمة وتدرّج، خاصة أن "روشتة" الصندوق لا تُفصّل بالضرورة على مقاس كل اقتصاد.
ويستطرد: في المقابل، يظهر خيار آخر يتمثل في التفاوض المباشر مع الدائنين لإعادة هيكلة الديون.. خطوة قد تشمل تمديد آجال السداد، أو تخفيف الشروط، أو حتى إلغاء جزء من الديون، بما يمنح الدول هامشًا للتنفس، إلا أن هذا المسار يواجه عقبة معقدة، وهي: "انقسام الدائنين".
يوضح في هذا السياق أن"نادي باريس" الذي يضم الدائنين التقليديين يتبع قواعد واضحة، بينما تفضل الصين، أكبر دائن ثنائي في العالم، التفاوض بشكل منفرد، وغالباً بشروط غير معلنة. وهذا الانقسام يُبطئ عملية إعادة الهيكلة، ويضيف إلى حالة عدم اليقين التي تعاني منها الأسواق.
وبعيدًا عن الحلول التقليدية، ظهرت في السنوات الأخيرة أدوات مبتكرة مثل "مبادلة الديون مقابل الاستثمار"، أو مقابل الالتزام بتنفيذ مشروعات بيئية.. ويشير سعيد لمصر، على سبيل المثال، التي نجحت في عقد اتفاقات بهذا الشكل مع دول مثل ألمانيا وإيطاليا، ما أسهم في تخفيف جزء من أعباء الدين، وفي الوقت نفسه دعم أهداف التنمية المستدامة.. لكن رغم جدواها، تبقى هذه الآلية محدودة الأثر مقارنة بحجم الأزمة القائمة.
ويشير سعيد إلى أن:
- الدول النامية بحاجة إلى اعتماد سياسات مالية رشيدة تُقلص العجز وتُحسن إدارة الإنفاق العام، إلى جانب تنويع مصادر الدخل بدلًا من الاعتماد على مورد واحد.
- الاستثمار في القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة والتكنولوجيا هو الضمانة الحقيقية لرفع الناتج المحلي وتحسين ميزان المدفوعات وتوفير العملة الصعبة اللازمة للوفاء بالالتزامات الخارجية.
- ولا يمكن تجاهل أهمية تطوير البنية التحتية بما يشمل شبكات النقل والطاقة والاتصالات كعامل محفز لجذب الاستثمارات وخفض تكاليف الإنتاج، لكن الأهم هو خلق بيئة أعمال شفافة ومحاربة الفساد وتعزيز الثقة في المؤسسات، وهي شروط أساسية لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتخفيف الحاجة إلى المزيد من الاقتراض.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" yahoo "
0 تعليق