تتميز رؤية إدارة ترامب للشرق الأوسط بعد الضربة الإيرانية بالرغبة في إعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية، وتأمين نتائج استراتيجية محددة، مع تجنب التورط العسكري المطول و”الحروب التي لا تنتهي” إلى حد كبير. تتشكل هذه الرؤية في المقام الأول من خلال نهج عملي قائم على المعاملات، حيث يرى الرئيس ترامب نفسه “صانع صفقات”. نهج ترامب يؤكد على استخدام القوة العسكرية الساحقة لتحقيق الأهداف الدبلوماسية، ويعتقد أن الضربات تمنحه نفوذًا كبيرًا على جميع الأطراف، بهدف إجبار إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى اتفاق شامل. ومن المرجح أن تتضمن مثل هذه الصفقة قيودًا صارمة على البرنامج النووي الإيراني، وعمليات تفتيش دقيقة، ووضع حد لدعمها للجماعات الوكيلة. إن أحد الركائز الأساسية لاستراتيجية ترامب الإقليمية الأوسع نطاقًا هي توسيع التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، وخاصة المملكة العربية السعودية.. ويُتصور هذا باعتباره “خطة إقليمية كبرى”، يمكن أن تشمل أيضًا عُمان وإندونيسيا وقطر وسوريا. ترى الإدارة الأمريكية في وقف إطلاق النار مع إيران فرصةً؛ للضغط من أجل إنهاء حرب غزة وإطلاق سراح الرهائن. ويُعتبر هذا الأمر بالغ الأهمية للمضي قدمًا في اتفاقيات التطبيع، مع إمكانية إدارة حكومة فلسطينية جديدة مدعومة من الدول العربية لخططٍ، تهدف إلى إخلاء غزة من حماس. ومع ذلك، يواجه توسيع اتفاقيات “إبراهام” العديد من المشاكل المعقدة والمترابطة في أعقاب الضربات الأخيرة ضد إيران، والتي تنبع من الصراعات الإقليمية العميقة الجذور، والديناميكيات السياسية الداخلية، والطبيعة غير المتوقعة للمشاركة الدولية. عقبات ست ١- القضية الفلسطينية العالقة: حتى الآن فإن الشرط الثابت للمملكة العربية السعودية أمام الانضمام إلى اتفاقيات التطبيع هي مطالبتها بالتزام مكتوب، لا لبس فيه بإقامة دولة فلسطينية. ويجب أن يستند هذا الالتزام إلى خطة واضحة ذات معايير قابلة للقياس، بمجرد أن تقوم السلطة الفلسطينية بالإصلاحات اللازمة. إلا أن هذا يواجه مقاومة من نتيناهو؛ فرئيس الوزراء الإسرائيلي لم يكن مستعدًا لتقديم أكثر من تصريحات غامضة وغير ملزمة، فيما يتعلق بالدولة الفلسطينية، والتي غالبًا ما يتراجع عنها. إن حكومته الحالية، المتأثرة بالعناصر المتطرفة، تعطي الأولوية لطموحها بالعودة إلى غزة وضم الضفة على صفقة التطبيع مع السعودية. ويتعارض هذا الموقف بشكل مباشر مع الشروط السعودية، ويشكل عائقًا رئيسيًا أمام السلام الأوسع. كما لا يمكن أن تبدأ مناقشات جادة حول توسيع التطبيع بشكل واقعي، إلا بعد انتهاء الحرب في غزة بشكل كامل. لقد استمر الصراع لأكثر من ٦٠٠ يوم، مع وجود حاجة ملحة لإعادة الرهائن. بدون مسار موثوق لحل الدولتين، فإن تحقيق السلام الإقليمي الأوسع يظل بعيد المنال. إن الجهود الحالية لدمج إسرائيل في الإطار الإقليمي تشكل تحديًا لقادة الخليج، حيث قد يبدو أنهم يتحالفون مع دولة، يُنظر إليها على أنها تنتهك الحقوق العربية بشكل متكرر. ٢- أولويات الحكومة الإسرائيلية وديناميكياتها الداخلية: تُعطي الحكومة الإسرائيلية، وخاصةً في ظل ائتلاف نتنياهو اليميني المتطرف، الأولوية للتفوق العسكري، وتعتبره السبيل الوحيد للأمن. يهدف هذا النهج إلى فرض “السلام بالقوة”، وإظهار قدرة إسرائيل على الوصول إلى أي عدو في المنطقة. وتتناقض هذه الاستراتيجية التي تضع الجانب العسكري في المقام الأول مع التكامل الدبلوماسي المطلوب لإبرام الاتفاقيات. نتنياهو يؤكد، أن إسرائيل وضعت نفسها كـ”قوة عالمية من الدرجة الأولى”. ومع ذلك، فلا يمكن لدولة يبلغ عدد سكانها 10 ملايين نسمة فقط، صغيرة للغاية، تعتمد على الولايات المتحدة عسكريا، ويحيطها جمهور عربي، يرفض هيمنتها… لا يمكنها أن تكون قوة مهيمنة في المنطقة. إن أوهام العظمة الجيو سياسية قد تؤدي إلى مزيد من التعقيدات. ٣- صمود إيران واستمرار التهديد: على الرغم من الضربات الأخيرة، فإن الإرادة السياسية الإيرانية لمواصلة برنامجها النووي لا تزال “ثابتة”، من المرجح جدًا أن تعيد إيران بناء قدراتها، ربما بسرية متزايدة، وترى في الأسلحة النووية “الضمانة الموثوقة الوحيدة” لبقاء نظامها. إن هذا الطموح المستمر من شأنه، أن يعقد أي إطار للاستقرار الإقليمي الذي تهدف الاتفاقيات إلى تحقيقه. ومن غير المرجح، أن تثق إيران بالولايات المتحدة أو إسرائيل في المفاوضات، خاصة في ضوء انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2018 والأعمال العسكرية الأخيرة. إن هذا الشعور العميق بعدم الثقة يعوق التوصل إلى حلول دبلوماسية. وعلى الرغم من كشف الهجمات الخارجية عن العيوب الاقتصادية والعسكرية للنظام، إلا أنها قد أدت إلى حشد الدعم الوطني حول الحكومة الإيرانية ولو مؤقتًا. ٤- النهج الحذر لدول الخليج: في حين ترحب دول الخليج بإيران الضعيفة، فإنها تشعر بالقلق إزاء الفوضى المحتملة والأزمات الإنسانية وتدفقات اللاجئين التي قد يطلقها انهيار نظام طهران. إنهم يفضلون إضعافًا مطولًا لكل من إيران وإسرائيل، بدلاً من تحقيق نصر حاسم لأي منهما، لأن ذلك يقلل من التهديدات للاستقرار الإقليمي. إن أولويتهم هي الرخاء الاقتصادي، ورغبتهم في منطقة جذابة للاستثمار، وليس منطقة يستنفدها الصراع. بعض دول الخليج تعيد تقييم نظرتها لإسرائيل، متسائلة عما إذا كانت أفعالها الأخيرة تساهم في الاستقرار أو زعزعة الاستقرار. لقد أدى تأثير الضربات الإسرائيلية الأمريكية إلى جعل المملكة العربية السعودية أقل ميلاً إلى تجاهل المخاوف الأخرى على الفور والمضي قدمًا في التطبيع. لقد اعتمدت دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بالفعل استراتيجيات تحوط، مما أدى إلى تعزيز التقارب مع إيران في عام 2023؛ لتجنب الاضطرار إلى اختيار أحد الجانبين في الصراعات الإقليمية. ومن الممكن أن يؤدي هذا التوازن الاستراتيجي إلى جعلهم أقل رغبة في إقامة تحالفات حصرية معادية لإيران. ٥- تعقيدات سوريا ولبنان: في حين أبدى الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع انفتاحه على الانضمام إلى اتفاقيات التطبيع في ظل ظروف معينة، بما في ذلك محادثات السلام مع إسرائيل. ومع ذلك لا تزال هناك عقبات كبيرة مثل، وضع مرتفعات الجولان والهجمات الإسرائيلية المستمرة. وكما ذكر أحد خبراء الشأن السوري؛ فإن الشرع لا يمكن أن يقدم على اتفاقية سلام دون عودة الجولان المحتل، وإن أقصى ما يتطلع إليه في هذه المرحلة، هو وقف العدوان الاسرائيلي المستمر والوصول إلى اتفاق في هذا الشأن. يواجه الشرع معارضة شعبية. السوريون لا يريدون الـحرب، لكنهم لا يمكن أن يقبلوا التنازل عن الجولان- خاصة في ظل اتهامات لحافظ الأسد- الرئيس السوري السابق- بالانسحاب المتعمد منها لصالح إسرائيل. يواجه الشرع مجموعات إسلامية، تورط معها في صراعات وتصفيات أيام حكم إدلب، وهي ستستغل علاقاته مع إسرائيل لإحياء المواجهة المسلحة معه من جديد. في لبنان، أصبحت جهود نزع سلاح حزب الله معقدة؛ بسبب الدور المركزي الذي تلعبه الجماعة بالنسبة لإيران والديناميكيات الداخلية الحساسة لنزع السلاح. ٦- عدم القدرة على التنبؤ بالسياسة الخارجية الأمريكية (عامل ترامب): إن نهج السياسة الخارجية لدونالد ترامب، الذي يتأرجح بين الانعزالية المتمثلة في شعار “أمريكا أولاً” والتدخل العسكري، يخلق حالة من عدم اليقين لكل من الحلفاء والخصوم. في حين أن أفعاله قد تحقق نتائج فورية، إلا أنها تعوق التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد للاستقرار الإقليمي. يفتقر ترامب إلى استراتيجية واضحة وشاملة تجاه المنطقة، وتوصف سياسته الإقليمية، بأنها رد فعل، وتعتمد على أشكال مظهرية، وتتصف بالاستعراض أكثر من الحقائق، وتفتقر إلى التماسك الاستراتيجي، مما يترك الحلفاء غير متأكدين والخصوم في حالة من عدم اليقين. إنه يعطي الأولوية للمظهر، وعقد الصفقات، على الأطر الاستراتيجية الدائمة. إن الصراع الجديد في الشرق الأوسط إلى جانب الحروب التجارية المستمرة يؤدي إلى تفاقم التوقعات الاقتصادية العالمية بشكل كبير، مما يزيد من احتمال حدوث ركود عالمي.. إن دول الخليج حساسة بشكل خاص لعدم الاستقرار الإقليمي؛ بسبب خططها للتنويع الاقتصادي. إن الضربات الأمريكية والإسرائيلية، التي يزعم أنها انتهكت القانون الدولي، وقوضت سلطة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تنقل رسالة مفادها أن “الضعفاء فقط هم من يتبعون القواعد”. إن هذا التآكل في الشرعية الدولية يعقد جهود الأمن الجماعي، وتحقيق إجماع إقليمي واسع النطاق.