فى مهرجان «موازين إيقاعات العالم» بالرباط، كان يُظنّ أن «شيرين عبدالوهاب» ستعود فى أمسية مكلّلة بالنجاح. غير أن الأداء اعتمد على «البلاى باك» فى الأغنيات الأولى، مما أثار هتافات من الجمهور تطالبها بالغناء الحى، وغادر بعض الحضور المكان احتجاجًا. لاحقًا، شهِد الحفل ارتباكًا تنظيميًا واكتظاظًا عند المداخل، ثم بدت «شيرين» خارج اللياقة الفنية فى لحظات التحية للجمهور. ورغم إصدار المهرجان بيان دعم لها، لوّح محاميها باتخاذ إجراءات قانونية ضد من وصفهم بـ«المتجاوزين». وأرجو ألّا يُفسَّر هذا المقال على أنه تجاوز يستوجب المساءلة القانونية بتهمة «نقد الذات الشيرينية»، لكن هل سيتولى محامى الفنانة ملاحقة الجمهور المغربى الذى اعترض علنًا فى مقاطع مصوّرة وطالب باسترداد ثمن التذاكر؟ وهل ستعوّض «شيرين» أولئك الذين غادروا الحفل غاضبين، بعد أن شعروا بأنها لم تكن صادقة معهم، وبأنهم تعرضوا للخديعة؟ الأسوأ من ذلك، أن تتكرّس فى بعض وسائل الإعلام حالة من الابتزاز العاطفى لكل من يحاول التفكير بعقلانية، وكأننا ملزمون بدعمها دون شروط، وكأنها تخوض معركة ضد أعداء الأمة، لا حفلًا جماهيريًا فى بلد احتفى بها، وكرّمها، وجمهورٍ ذهب إليها حبًّا فيها، لكنها خذلته. تحوّلت الحادثة إلى حملة ابتزاز جماعى تحت شعار «الدعم المطلق للفنانة العفوية»، بل قيل أيضًا إن هناك فنانات يقفن خلف الحملة ضد «شيرين»، وكأنهنّ منعْنها من الغناء «لايف» أمام الجمهور! أَيُعقَل؟! علمًا بأن علماء النفس، وفى مقدّمتهم «ليون سيلتزر»، يُعرّفون «العفويّة» بأنها تصرّف غير مفتعل، يصدر عن الفرد فى بيئة آمنة، لا يجرّ عليه أذى قانونيًا أو اجتماعيًا. وإذا كانت تصريحات «شيرين عبدالوهاب» تصل إلى ساحات القضاء، وتُحدث اضطرابًا فى المجال العام، فبأى معيار يمكن اعتبارها عفوية؟ إن الترويج الإعلامى لهذا الوصف ليس سوى تغطية لسلوك غير منضبط، يخلط بين المجال الشخصى والعام، ويؤسّس لفوضى يُراد تصديرها إلى الجمهور فى هيئة «صدق جميل»، فى حين أن الفن، كما الحرية، مسئولية قبل أن يكون عفوية. دخلت «شيرين» حقل الغناء الاحترافيّ سنة 2002، وقدّمت، فى ثلاثة وعشرين عامًا، ثمانية ألبومات فحسب. أما بقية الأعوام، فانشغلت فيها بنزاعاتٍ متراكمة مع جميع شركات الإنتاج التى عملت معها بلا استثناء. ما المشروع الموسيقيّ الذى تبلور خلال عقدين؟ لا هوية موسيقية ثابتة، ولا «بيرسونا» متمايزة؛ فيما يُطوّر «عمرو دياب» خطَّ الفلامنكو والبوب، وتحافظ «سميرة سعيد» على خطاب الندية، وتنمّى «نانسى عجرم» صورة الفتاة الدلوعة، ويصوغ «كايروكى» روكًا مصريًا متماسكًا. الصوت الموهبة وحده لا يكفى؛ المشروع هو ما يتراكم، لا ما يلمع ثمّ يتبخّر. ورغم ذلك، يتّسق الإعلام المتحمّس لـ«شيرين» على تسميةٍ عابرة للعقل: «صوت مصر». بيد أن «صوت مصر» واحدٌ تاريخيّ هو «أم كلثوم»؛ فهى مَن جمعت الصوت بالمشروع والرمزية الوطنية. أما «شيرين»، فكيف تُمنح لقبًا يخلعه الإعلام فى لحظةِ انفعال، وهى تعيش صراعًا قانونيًا مع كلّ عقدٍ توقّعه، وتصريحاتٍ تتجاوز اللياقة، وغيابَ انتظامٍ إبداعيّ؟ خطورةُ هذا الترويج أنّه يمنح صاحبةَ السلوك المتقلّب صكَّ براءةٍ أبديًا، ويدفعها إلى مزيدٍ من الاستهتار. فما دام كلّ انفلات «عفوية»، وكلُّ إخلالٍ بالعقد «عفويّة»، فلنلغِ إذن القوانين والعقود، ولنحكم هذا الحقلَ بالغريزة! الواقع أنّ النجومية تُضاعف المسئولية؛ ومن يعتلى المنصة ينبغى أن يُدرك أنّ الجماهير تُحاسِب، وأنّ التاريخ لا يحتفظ إلا بالمشروع الحقيقيّ. إنَّ تجربة شيرين عبد الوهاب تكشف مأزقًا ثقافيًّا أوسع: استسهال الإعلام تزيين الانحرافات تحت لافتة «العفويّة»، وبيع الجمهور أوهامًا باذخة بلا مضمون فنّيّ مستقرّ. والعبرة واضحة: الصوت هبةٌ، لكنّ الخلود مشروع؛ لا يُبنَى بالكاميرات والاعتذارات المتلاحقة، بل بالانضباط، وبنية الإنتاج، واحترام الجمهور. فهل تتعلّم «شيرين» الدرس وتراجع مسلكها، أم تُواصل الرهان على «عفويّة» تُدمنها حتى آخر نشرةِ اعتذار؟.