لم تكن الهند مجرد بلد على خارطة التاريخ؛ كانت مركز العالم، جوهر التجارة، ومهد الحضارة الاقتصادية، فقبل أن تدوس أقدام الاستعمار البريطاني ترابها، وقبل أن تتفكك أوصالها بفعل القوانين الجائرة والنهب المنظم، ظلت الهند لقرون طويلة في صدارة الاقتصاد العالمي. تشير تقديرات المؤرخ الاقتصادي "أنجوس ماديسون" إلى أن الهند كانت في العام الأول الميلادي أكبر اقتصاد في العالم، إذ ساهمت بما يقارب 33% من الناتج العالمي. للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام وعلى مدار الألف سنة التالية، لم تتزحزح كثيرًا عن القمة، وظلت تنافس الصين كأضخم قوة اقتصادية، ومع حلول القرن الثامن عشر، كانت الهند لا تزال تمثل نحو 24% من الناتج العالمي، مقارنة بـ2.9% فقط لبريطانيا في العام نفسه. غير أن تلك الريادة لم تدم، فقد انقضت الإمبراطورية البريطانية على الهند كوحش استعماري شره، محوّلة إياها من مصنعٍ مزدهر للعالم إلى مستودعٍ خام لتغذية اقتصادها. وبحلول القرن العشرين، خرجت الهند من قائمة أكبر 5 اقتصادات في العالم، وتدهور قطاعها الصناعي بشكل كبير، فيما اعتلت بريطانيا التصنيف، وصحيح أنها عادت الآن لهذه المرتبة، لكن بعدما تأخرت كثيرًا عن منافسيها. فما الذي حدث؟ وكيف انهار اقتصاد متين يمتد لآلاف السنين بهذه السرعة؟ وهل كان الأمر مجرد تغير طبيعي في موازين القوة أم نتيجة مباشرة لممارسات استعمارية ممنهجة؟ طفرة تاريخية - تختلف تقديرات الخبراء حول حجم وحصة الاقتصادات في عصر ما قبل البيانات، لكن أغلبهم أجمع بالتقريب على الهيمنة الهندية التي واجهت لاحقًا منافسة صينية في فترات ما قبل الاستعمار الغربي. - في عام 2008، نشر "مايكل سيمباليست" رئيس استراتيجية السوق والاستثمار في "جيه بي مورجان" لإدارة الأصول، ورقة بحثية اتفقت مع "ماديسون" في أن الهند مثلت أكبر حصة من الاقتصاد العالم على مدار أكثر من ألف عام، ثم نافست الصين على هذه المكانة لنحو 700 عام. - في أول ألف عام من التاريخ الميلادي، كانت الهند والصين موطنًا لثلث وربع سكان العالم على التوالي، لذا، ليس من المستغرب أنهما سيطرتا أيضًا على ثلث وربع اقتصاد العالم على الترتيب. حصة الدول من الاقتصاد العالمي على مر التاريخ العام الهند الصين بريطانيا فرنسا أمريكا الأول الميلادي %31 %27 -- -- -- 1000 %29 %21 -- -- -- 1500 %24 %26 -- -- -- 1600 %22 %29 -- %4 -- 1700 %25 %23 -- %4 -- 1820 %17 %32 %4 -- -- 1870 %12 %17 %10 -- -- 1900 -- %12 %9 -- %16 1950 -- -- %5 -- %27 2000 -- %12 -- -- %21 - تقديرات "الإيكونوميست" لعام 2014، الموضحة في الجدول السابق، تتطابق تقريبًا مع تحليلات "سيمباليست" و"ماديسون"، وتشير إلى حقيقة واضحة، وهي أن الاقتصادات الرائدة انهارت بعد احتلالها، فيما تعاظمت هيمنة الاقتصادات المستعمرة. - وفقًا لورقة نشرها موقع "نيوجيوجرافي"، والتي استندت لتقديرات "ماديسون" وبيانات صندوق النقد، فإن حجم الاقتصاد الهندي في عام 1500 بلغ أقل قليلًا مما يعادل 100 مليار دولار وفقًا لمؤشر تعادل القوة الشرائية في عام 2015. - جاء ذلك بفارق بسيط للغاية عن الصين صاحبة أكبر اقتصاد في العالم آنذاك، لكن بفارق هائل عن الدول الثلاثة التالية (فرنسا وإيطاليا وألمانيا على الترتيب)، والتي يقل حجم اقتصاد كل منها عن 20 مليار دولار، وفقًا لنفس المعيار، وعلمًا بأن بريطانيا لم تكن بين الخمسة الكبار آنذاك. - في عام 1700، قفزت قيمة الاقتصاد الهندي إلى أكثر من 150 مليار دولار تقريبًا في المركز الأول بقائمة أكبر الاقتصادات، لكنها لم تتغير تقريبًا خلال الـ 120 عامًا التالية، لتتراجع إلى المركز الثاني، بعد الصين (355 مليار دولار)، وقبل بريطانيا (55 مليار دولار). ماذا حدث؟ - يرجع البعض تاريخ التدخل البريطاني في شؤون شبه القارة الهندية إلى بدايات القرن السابع عشر، عندما تأسست شركة الهند الشرقية البريطانية بميثاق من الملكة إليزابيث الأولى، والتي لم تحظ بأي نفوذ سياسي في البداية. - لكن بحلول منتصف القرن الثامن كان نفوذ الشركة قد تعاظم بشكل كبير، بما في ذلك النفوذ العسكري والسياسي، وفي عام 1757، انتصرت في معركة بلاسي التي شكلت نقطة تحول حاسمة، وينظر إليها كثيرون باعتبارها بداية الاحتلال البريطاني للهند فعليًا. - بعد الثورة الهندية الكبرى، عام 1858، ألغيت شركة الهند الشرقية، وخضعت الهند رسميًا لحكم التاج البريطاني مباشرة، فيما عرف باسم "الراج البريطاني". - يقول "سيمباليست": " قبل الثورة الصناعية، لم يكن هناك ما يُسمى بنمو الدخل المستدام الناجم عن الإنتاجية، ولآلاف السنين كانت الحضارات عالقة في فخ مالتوس، فإذا مات الكثيرون، تميل الدخول إلى الارتفاع، حيث يستفيد عدد أقل من العمال من إمدادات مستقرة من المحاصيل". - لكن لو وُلد عدد كبير من السكان، لتراجعت الدخول، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى المزيد من الوفيات، هذا يُفسر مفهوم "الفخ"، ويُفسر أيضًا سبب العلاقة الطردية بين أعداد السكان والناتج المحلي الإجمالي. - غيّرت الثورة الصناعية كل ذلك، وتُمثل الولايات المتحدة 5% من سكان العالم و21% من ناتجه المحلي الإجمالي، فيما تُمثل آسيا (باستثناء اليابان) 60% من سكان العالم و30% من ناتجه المحلي الإجمالي، وفقًا لتقديرات "سيمباليست" الصادرة قبل 17 عامًا. - مع ذلك، لا يبدو أن الثورة الصناعية وحدها هي ما صنعت الفارق بالنسبة للاقتصادات الغربية، ولكن سياسات الاستعمار التي دمرت الإنتاج ونهبت الموارد وعبثت حتى بالعنصر البشري، كانت سببًا كافيًا لانطفاء شعلة الشرق وحرمانه من ثورته الصناعية الخاصة. كيف سُرقت ريادة الهند؟ - بحسب دراسة للأكاديمية الاقتصادية "أوتسا باتنايك"، فقد نهبت بريطانيا من الهند ما يعادل نحو 45 تريليون إلى 64 تريليون دولار (بحسابات اليوم)، وذلك بين عامي 1765 و1938. - لم تكن هذه مجرد أرقام، بل ثروات حقيقية، وحصلت عليها في صورة ضرائب مفرطة، وسلع مصادرة، وصادرات بلا مقابل، وخدمات مقدمة قسرًا للجيش البريطاني دون أجر. - كانت بريطانيا تجبر الهند على تصدير القطن والتوابل والموارد الخام، ثم تمنعها من تطوير صناعاتها المحلية، وتُغرق أسواقها بمنتجات بريطانية بأسعار مدعومة، فتقتل المنافسة، وتحوّل التجار إلى عبيد في منظومة اقتصادية تخدم المركز الإمبراطوري فقط. - استخدمت المصانع البريطانية القطن الهندي الخام المُعفى من الرسوم الجمركية لتصنيع الأقمشة، مما أدى إلى انخفاض أسعار حرفيي المنسوجات المحليين وتدمير أعمالهم، وانخفضت حصة الهند من الصادرات الصناعية العالمية إلى 2% من 27%، وانهار الإنتاج الصناعي عمومًا. - الأدهى من ذلك، أن هذه الممارسات لم تتوقف عند الاقتصاد، بل امتدت إلى البنية الاجتماعية والصحية، ففي ظل الاستعمار، تجاهلت السلطات البريطانية عن عمد المجاعات التي ضربت الهند مرات عدة، ما أدى إلى موت ملايين البشر. - في كثير من الأحيان، كانت المحاصيل تصدَّر لبريطانيا بينما السكان يموتون جوعًا، وفي عام 2022، سلطت ورقة بحثية بعنوان "Capitalism and extreme poverty" الضوء على وفاة عشرات الملايين من الهنود بين عامي 1880 و1920 بسبب السياسات البريطانية. - شهدت الهند أيضًا في عهد الاحتلال مجاعات كارثية مثل مجاعة البنغال الكبرى عام 1943، التي راح ضحيتها أكثر من 3 ملايين إنسان، بينما واصلت بريطانيا تصدير الأرز والقمح إلى أوروبا. - مع نهاية القرن التاسع عشر، تراجع نصيب الهند من الاقتصاد العالمي إلى أقل من 4%، مقابل 9% لبريطانيا.. لقد نجحت بريطانيا في الصعود، لكنها صعدت على أنقاض دولة كانت يومًا ما قلب الاقتصاد العالمي النابض. - لكن الهند لم تنسَ، ولم تركن للهزيمة، فبعد الاستقلال في عام 1947، شرعت البلاد في بناء اقتصادها من جديد، وبعد عقود من السياسات البطيئة، جاء التحول الحقيقي مع سياسة التحرير الاقتصادي عام 1991، التي فتحت أبواب الاستثمار والتكنولوجيا، وأعادت للهند مكانتها تدريجيًا. - اليوم، أصبحت الهند رابع أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وتمضي بخطى ثابتة نحو أن تصبح من الثلاثة الكبار خلال العقد المقبل، ورغم التحديات، فإنها أظهرت أن النهوض من تحت أنقاض التاريخ ممكن، حين تمتلك الأمة الإرادة. - إن قصة الهند ليست مجرد درس في الاقتصاد، بل حكاية شعوب قاومت الاستغلال، وأعادت كتابة مصيرها، وفيما تتحدث بريطانيا اليوم عن "عصر ما بعد الاستعمار"، لا تزال الهند تكتب فصلًا جديدًا تحاول فيه استعادة المجد الضائع، بذاكرة لا تنسى كيف سُرق تاجها في وضح النهار. المصادر: أرقام- ذا أتلانتيك- فيجوال كابيتاليست- الإيكونوميست- نيوجيوجرافي- ساينس دايركت- إيكونوميك تايمز- أوكسفام- إن دي تي في- ورقة أكاديمية هندية بعنوان "The Indian Economy Before Independence"- مجلة سواراجيا- فوربس- شات جي بي تي