منذ نحو شهر، أصدر رئيس الجمهورية قرارا بالموافقة على تعديل ثلاثة قوانين، تتعلق بانتخابات مجلسي النواب والشيوخ. القوانين التي صدرت بموجب المادة 123 من الدستور، أهم ما فيها، أنها تُبقي على النظام الانتخابي الأغلبي. ما من شك، أن هذا النظام لم يكن ليثير مشكلات كثيرة، لأن مصر اعتادت عليه في غالبية انتخاباتها التي جرت منذ عام 1866، فيما يخص انتخاب مجلس شورى النواب. صحيح، أن هذا النظام يُؤخذ عليه، خاصة في البلدان النامية، أنه يُشجع على العنف والرشاوى الانتخابية والشخصنة.. إلخ، إلا أنه في النهاية نظام درجت عليه العديد من بلدان العالم. تزوير فاضح لإرادة الناخبين هناك أساليب عديدة لتطبيق النظام الأغلبي. أولها وأكثرها شهرة ورواجا بين الدول، الأسلوب الفردي، وهو الذي أخذت به مصر في معظم الانتخابات التي جرت قبل أحداث يونيو 2013. لكن أسوأ ما في هذا النظام الانتخابي، هو الأسلوب المعروف بالقوائم المطلقة. إذ أنه على حين يحسم الفائز في الأسلوب الفردي المعركة بالفوز بـ51% من أصوات الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم، مستبعدا كل الأصوات التي اقترعت لصالح المرشح المنافس الذي حصل على 49% من الأصوات، وهو أمر يبدو طبيعيا، لأن المرشح الواحد لا يمكن أن ينقسم شطرين، إلا أن نظام القوائم المطلقة أو ما يُطلق عليه علميا بالكتلة الحزبية، يُفجر أزمة خطيرة لكونه يضم الـ49% التي حصلت عليها القائمة/ القوائم المنافسة إلى أصوات المقترعين- والمؤلفة من عشرات المرشحين- إلى القائمة الحاصلة على51% من الأصوات، وذلك في الوقت الذي يمكن فيه بسهولة أن يتم توزيع الأصوات على القوائم جميعا. مثلا، هَب أن لدينا ثلاث قوائم (أ ب ج) تخُوض الانتخابات في دائرة ما قوامها 2 مليون ناخب، ويطلب القانون لتمثيلها 100 مقعد. يوم الاقتراع حضر من هؤلاء مليون و50 ألف ناخب، وكانت الأصوات الصحيحة عددها مليون ورقة اقتراع. حصلت القائمة (أ) على نصف مليون وعشرة أصوات، والقائمة(ب) 300 ألف صوت، والقائمة(ج) على 199,990 صوتا. هنا تُفترض العدالة وتكافؤ الفرص وبعد حساب لثمن المقعد، أن تفُوز القائمة (أ) بعدد 50 مقعدا تقريبا، والقائمة(ب) بـ30 مقعدا بالتمام والكمال، والقائمة(ب) 20 مقعدا تقريبا. لكن أسلوب القائمة المطلقة يجعل القائمة (أ) تحصل على 100% من الأصوات،،،،، ومن ثم كل مقاعد الدائرة، بمعنى أنها تغتصب وتستولي بالقانون على كافة أصوات الدائرة، بمن فيهم من صوت للقوائم الأخرى، في تزوير واضح، ولا لبس فيه لإرداة الناخبين، بشكل مقنن لا معقب ولا عقاب عليه!! القانون الحالي قسم البلاد إلى 4 قطاعات/ دوائر انتخابية كبيرة، منها دائرة الجنوب، ومساحة تلك الدائرة وحدها يفوق 75% من مساحة مصر (كونها تضم كل محافظات الصعيد والبحر الأحمر والوادي الجديد). وللقطاعات/ الدوائر الأربع 50% من المقاعد المنتخبة. القائمة المطلقة غرضها تشكيل مجالس جاثية وخانعة مما لا شك فيه، أن الناظر إلى إصرار السلطة على القانون المعيب الحالي هو إصرار على تشكيل مجالس تمريرية، تسميها أدبيات الغرب Rubber Stamp (أي بصمجية)، وهذه المجالس تفعل كل ما يُطلب منها. هنا تتلكأ السلطة، بأنه لا يمكن وضع نظام انتخابي غير القائمة المطلقة، لأن الأخير هو القادر على تمثيل الكوتات الدستورية الاجتماعية الست في الدستور. المؤكد أن هذا الأمر يعد كذبا بينا. لأن هناك مشروعات عديدة وضعها متخصصون في النظم الانتخابية بالأرقام، لتمثيل الكوتات عبر النظام النسبي الأكثر عدالة، ورفضتها السلطة. الأمر الثاني، أنه عندما عُدل دستور 2012 عام 2019، وجاء بمجلس الشيوخ، لم يوجب الدستور تمثيل تلك الكوتات في هذا المجلس منزوع الصلاحيات، ورغم ذلك أُقر له ذات النظام الانتخابي بالقوائم المطلقة، ما يعني أن الأمر ليس متعلقا بالكوتات، ولكن بنشأة مجالس طيعة وتابعة للسلطة التنفيذ ية وغير مستقلة عنها، لا يسمع فيها غير الصوت الواحد. الأمر الثالث، أن نظام القائمة المطلقة تعمل به– وفقًا لإحصاءات النظم الانتخابية، وحتى عام2007- أربع دول حول العالم فقط، هي الكاميرون/ تشاد/ جيبوتي/ سنغافورة. وقد هجرته على الأقل الآن دولة واحدة من تلك الدول الأربع، وهي تشاد. وكان السبب الرئيس لمحدودية عدد الدول التي تأخذ بها النظام هو عدم العدالة وتزوير إرادة الناخبين. بعبارة أخرى، هذا النظام المهجور، يرجع رفضه إلى أن القائمة التي تحصل على أكثر من50% من عدد الأصوات الصحيحة، تكتسح كل مقاعد الدائرة، مما يشكل تزويرًا لنتائج الانتخابات بالقانون، وهو بذلك يسير عكس النظام النسبي، المعمول به في الكثير من دول العالم، والذي يأخذ عادة أسلوب القوائم النسبية بأشكال مختلفة، وأهمها القوائم النسبية المغلقة. نظام غير دستوري بامتياز يعتقد البعض خطأ، ومنهم أساتذة قانون، أن الحديث عن أن دستور 2012 المُعدل، والذي وردت في الفقرة 3 من المادة 201 منه، أنه”…. ويجوز الأخذ بالنظام الانتخابي الفردي، أو القائمة، أو الجمع بأي نسبة بينهما.” أنه يعطي للشارع القانوني مطلق السراح في الأخذ بالقائمة المطلقة، وآية ذلك الخطأ ما يلي: – إن مواد الدستور يُكمل بعضها البعض، ومن هنا يجب أن يأخذ الشارع القانوني المواد التي تُؤكد على المساواة وتكافؤ الفرص مأخذ الاعتبار، إلى جانب ما ذكرته المادة 102 آنفة الذكر. الأمر الثاني، أن الشارع القانوني لو عاد إلى مضابط وضع الدستور لوجد على الأرجح، أن مقصد الشارع الدستوري من العبارة السابقة في المادة 102 هو النظام الفردي أو القائمة النسبية أو الجمع بينهما، أي أنه لم يخطر له على باله أي شيء مرتبط بالقائمة المطلقة، بدليل أن الشارع الدستوري خلط بين الأساليب وبين النظم. فالفردي هو كالمطلقة أحد أسلوب النظام الأغلبي. بينما القائمة النسبية، هي أحد أساليب النظام النسبي. بعبارة أخرى، الفردي ليس نظاما بحد ذاته، بل أسلوبا لهذا النظام. الأمر الثالث، أن الشارع الدستوري سبق له أن حكم بعدم دستورية القائمة المطلقة. صحيح أن البعض قد يقول إن المادة السابقة (المادة201) لم تكن موجودة في الدستور الذي أخذ مرجعا لتلك الأحكام، لكن مراجعة تلك الأحكام تشير، إلى أن سبب الأحكام كان عدم المساواة وعدم عدالة هذا النظام، ولم تكن عدم وجود نص مشابه لنص المادة 201. أحكام سابقة بعدم دستورية القوائم المطلقة يبقى السؤال الآن: هل نظام القائمة المطلقة في التطبيق المصري دستوري، أم غير دستوري؟ هنا من المهم الإشارة إلى ثلاثة أحكام للمحكمة الدستورية العليا، وهي الأحكام التي تفاعل نظام مبارك معها بشكل إيجابي، فطبقها ونزل على رغبة منطوقها. -الحكم بحل المجالس المحلية عام 1988، لعدم دستورية قانون الانتخابات بالقائمة المطلقة، وإجراء انتخابات جديدة في العام نفسه على أساس القائمة المطلقة، إضافة لمقعد فردي واحد. -الحكم في العام 1996 بعدم دستورية انتخابات المحليات التي جرت بأسلوبي القائمة المطلقة والمقعد الفردي الواحد، وهو الأمر الذي تبعه إجراء انتخابات محليات جديدة في العام ذاته بالأسلوب الفردي الخالص. -حل مجلس الشورى وإجراء انتخابات جديدة عام1989، بعد أن حكمت المحكمة الدستورية بعدم دستورية قانون انتخاباته التي جرت بالقائمة المطلقة منذ تأسيسه عام 1980. أنظمة الأغلبية تروج للعنف وعودة الإخوان واحد من أهم مؤشرات عدم الاستقرار السياسي في النظم السياسية إبان الانتخابات هو استشراء العنف فترة الانتخاب، ويرجع ذلك بسبب النظام الأغلبي، وبالأسلوب الفردي منه على وجه التحديد. في انتخابات القائمة النسبية عامي 1984 و1987 سقط قتيلان، ثم قتيل واحد على الترتيب، مقابل ما حدث في الانتخابات بالأغلبية أعوام 1990 و1995 و2000، إذ سقط 10 و42 و50 قتيلًا على التوالي. من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بعلاقة النظام الانتخابي بالاستقرار السياسي، يصبح السؤال: أليس في النظام الأغلبي ما يدعم مشاركة الإخوان المسلمين في الخفاء في الترشيح للانتخابات، مقارنة بالنظام النسبي الذي تظهر فيه الأحزاب والقوى السياسية المشاركة بكل جلاء ووضوح؟ برلمان بلا معارضة حقيقية فيما يتعلق بوجود المعارضة في البرلمان، وهي كيان داعم للاستقرار في البلدان المتمدينة، على عكس النظم السلطوية التي توجد بها معارضة في الخفاء وتحت الأرض. تجدر الإشارة، إلى أنه خلال نظام القائمة النسبية كانت المعارضة بالبرلمان قوية، بسبب الأداء المتميز لنواب معتبرين من أحزاب الوفد، والعمل، والتجمع، والناصري، مقارنة بمجالس النظام الأغلبي عامة، وبأسلوب القائمة المطلقة خاصة، والتي كانت فيها المعارضة محدودة الأداء وهشة وطيعة. ألم يكن سبب الجدية هو الصراع على قضايا سياسات عامة تحت القبة كالدعم، والثقافة، وحقوق الإنسان، والعلاقات مع إسرائيل… إلخ، وهي القضايا التي كانت تأتي من مشاركة أحزاب لها برامج عبر نظام نسبي، مقابل ما نشهده اليوم من استشراء قضايا إنشاء مدرسة في حي أو شكارة السماد بجمعية زراعية ما، أو بناء مستشفى في دائرة انتخابية… إلخ، وهي قضايا ناتجة عن قوائم التزوير المطلقة في النظام الأغلبي. في الإطار نفسه، يذكر أيضًا، أنه مع الأخذ بأسلوب القائمة المطلقة، عادة ما تتألف قائمة بها حزب رئيس مصطنع من خارج النظام الحزبي وحوله أحزاب هامشية وصغيرة أكثر منه هشاشة، تُشارك من قبل الحزب الرئيس لذر الرماد في العيون، مُقابل اعتماد نظام القوائم النسبية تخوض عبرها القوى السياسية الكبرى في المجتمع الانتخابات، بشكل يوحي بالزخم الكبير. خلاصة الأمر، أنه شتان في الأداء التشريعي والرقابي بين برلمان القوائم المطلقة وبرلمان القوائم النسبية. ولمن يريد المزيد، فليدُرس أداء برلمان 1984 وبرلمان 1987، ليُدرك الفرق، صحيح أنه قد حكم بعدم دستوريتهما، لكن تلك الأحكام جاءت لرؤية المحكمة بمُناخ الغلق المحكم إبان نظام مبارك على تأسيس الأحزاب السياسية، ما اعتبرته غُبنا للمستقلين الذين يعجزون عن الترشح، إلا داخل أحزاب لا تنتمي لفكرهم، وهم في نفس الوقت عاجزون عن تأسيس أحزاب، يُعتبر تأسيسها اليوم أسهل كثيرا.