بقلم ✍️ مدحت الشيخ (كاتب في الشؤون السياسية والاجتماعية) عبر آلاف السنين، لم تكن مصر مجرد رقعة على الخريطة، بل كانت مركز إشعاع حضاري ساهم في تشكيل ملامح الإنسانية نفسها. فمن الكتابة والنقش على الحجر، إلى وضع أولى أسس الإدارة والعدالة، قدّمت مصر للعالم حضارةً لا تزال تُدهش الباحثين والمستشرقين حتى اليوم. هذه الحضارة لم تقف عند حدود المعابد والأهرامات، بل امتدت إلى العقول والقلوب. ففي كل عصر من العصور، احتفظت مصر بدورها الريادي في إنتاج المعرفة، وصون الهوية، والحفاظ على ملامح الشخصية الثقافية العربية في مواجهة التحديات. الثقافة في مصر ليست طارئة، بل متجذّرة في تفاصيل الحياة اليومية. تظهر في اللغة، والفنون، والحِرَف، وفي علاقة المصري بالمكان والتاريخ. وهي ثقافة تراكمية، ساهمت فيها كل العصور، من الفرعوني إلى القبطي إلى الإسلامي، وصولًا إلى العصر الحديث. وحين نتحدث عن التاريخ، فإننا لا نقف عند أحداث الماضي، بل ننظر إليه كرافد أساسي لصناعة المستقبل. فكل مجتمع يريد أن يتقدم، لا بد أن يتصالح أولًا مع ذاكرته، ويُدرك حجم ما يمتلكه من إرث، ليس بقصد التفاخر، بل لصياغة رؤية واثقة تستند إلى عمق حضاري حقيقي. ولذلك فإن صون التراث، وتشجيع البحث العلمي في مجالات التاريخ والآثار، ودعم الفنون والتعليم الإنساني، ليست ترفا فكريا، بل جزءا أصيلا من التنمية الشاملة. ومصر بما تملكه من طاقات بشرية ومقومات ثقافية، قادرة دوما على استعادة هذا الدور الحضاري، إذا وُضعت الثقافة في مكانها الصحيح ضمن أولويات النهضة. إن مستقبل مصر لا يُبنى فقط بالمشروعات المادية، بل أيضا بالوعي، والإبداع، والتجذّر في حضارة عريقة تضعها دائما في المكانة التي تستحقها.