كتب الرئيس الأمريكي صباح يوم 26 يونيو الجاري على منصة Truth Social التى أسسها ويمتلكها، بيان تأييد مفصل وبالغ الحسم لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو. وقبل تحليل مغزى هذه الخطوة، هذه ترجمة لنص هذا البيان، نظراً لأهمية الاطلاع على كل تفاصيلها: “خبر عاجل… صُدمتُ لسماع أن دولة إسرائيل، التي شهدت للتو واحدة من أعظم لحظاتها في التاريخ، والتي يقودها بقوة بيبي نتنياهو، تواصل حملتها Witch hunt السخيفة ضد رئيس وزرائها في زمن الحرب العظمى! لقد خضنا، أنا وبيبي الجحيمٍ معًا، نقاتل إيران، العدو القديم العنيد والذكي لإسرائيل، ولم يكن من الممكن أن يكون بيبي أفضل أو أكثر دهاءً، أو أقوى في حبه للأرض المقدسة الرائعة. أي شخص آخر كان سيعاني من الخسائر والإحراج والفوضى! كان بيبي نتنياهو محاربًا، ربما لا مثيل له في تاريخ إسرائيل، وكانت النتيجة شيئًا لم يتخيله أحد، وهو القضاء التام على ما كان يمكن أن يكون أحد أكبر وأقوى الأسلحة النووية في العالم، وهو الذي كان سيحدث قريبًا! كنا نقاتل، حرفيًا، من أجل بقاء إسرائيل، ولا يوجد في تاريخ إسرائيل من قاتل بشجاعة أو كفاءة أكبر من بيبي نتنياهو. رغم كل هذا، علمت للتو أن بيبي قد تم استدعاؤه إلى المحكمة يوم الاثنين، لمواصلة القضية طويلة الأمد (لقد كان يمر بـ”مسرحية الرعب” تلك منذ مايو 2020- أمر لم نسمع مثيلا له من قبل! فهذه أول مرة يُحاكم فيها رئيس وزراء إسرائيلي، وهو في منصبه) ذات الدوافع السياسية، “فيما يتعلق بالسيجار ودمية باجز باني Bugs Bunny والعديد من التهم غير العادلة الأخرى” من أجل إلحاق ضرر كبير به. إن مثل هذه الملاحقة، لرجل أعطى الكثير، أمر لا يمكن تصوره بالنسبة لي. إنه يستحق أفضل بكثير من هذا، وكذلك تستحق دولة إسرائيل. يجب إلغاء محاكمة بيبي نتنياهو على الفور، أو منح العفو لبطل عظيم، فعل الكثير من أجل الدولة. ربما لا يوجد أحد ممن أعرف كان بإمكانه العمل بتوافق أفضل مع رئيس الولايات المتحدة، أنا، من بيبي نتنياهو. لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي التي أنقذت إسرائيل، والآن ستكون الولايات المتحدة الأمريكية هي التي ستنقذ بيبي نتنياهو. هذا العبث بالعدالة لا يمكن السماح به!” إعلان ترامب بشخصه مساندته لنتنياهو بشخصه، على هذا النحو وبهذه القوة، أمر يتخطى المساندة المعهودة لاسرائيل، ويضع نتنياهو في مكانة، تكاد تعادل مكانة دولة إسرائيل نفسها، ويتناقض مع الروايات المتواترة عن ضعف الثقة بين الرجلين، وتكرار الخلافات بينهما. كما أن خروج الرئيس الأمريكى الأكثر شعبية في إسرائيل، وخاصة بعد قراره مشاركة الولايات المتحدة في ضرب إيران مباشرة، برسالة كهذه يقدم لنتنياهو مساعدة ثمينة للغاية، تقوي موقفه داخليا، بل قد تشجعه على الدعوة إلى انتخابات مبكرة، وهو أكثر ثقة بفرصه في الفوز فيها، وإحباط محاولات خصومه السياسيين إقصائه وإنهاء مسيرته السياسية، والأهم من ذلك إتاحة الفرصة له، أن يغلق إلى الأبد ملفات التحقيق الجنائية والسياسية التى تهدده، وهو في موقع قوة. بالطبع لا يمكن استبعاد أن الأمر له أبعاد شخصية، سواء بمعنى أن ما بين الرجلين من علاقات وثيقة، دفعت ترامب إلى محاولة مساعدة صديقه، وتمهيد الطريق له للخروج، مما يواجهه من صعوبات سياسية وترسيخ مكانته في تاريخ إسرائيل، أو أن نتنياهو شخصيا (وليس إسرائيل) يملك وسائل ضغط أو سيطرة فعالة للغاية على ترامب شخصياً، تجعله قادراً على توجيهه بهذا الشكل. لكن هذا احتمال غير مرجح؛ لأن ترامب لا يمكنه اتخاذ موقف على هذا القدر من الابتعاد عن السياسة الأمريكية المستقرة منفرداً وبحسابات شخصية بحتة، دون أن يثير ردود فعل قوية من مؤسسات السياسة الخارجية والأمن القومى الأمريكية. في المقابل، فإن هذا الدعم قد يكون هو الهدية التى يقدمها ترامب لنتنياهو لتدعيم موقفه السياسى داخلياً، ليتمكن من التجاوب مع جهود وقف إطلاق النار في غزة، بناء على تقدير بأن ما يمنع نتنياهو من التوصل إلى اتفاق هو عدم امتلاكه تأييد سياسى كافٍ لذلك، وأنه لو أقدم على إبرام اتفاق فستسقط حكومته، وتبدأ مرحلة نهايته سياسياً إلى الأبد. لكن هنا احتمال آخر يتعايش مع الاحتمالات السابقة، ويتسق مع الخط الذي تتخذه الولايات المتحدة وغالبية القوى الأوروبية الرئيسية منذ هجوم 7 أكتوبر 2023، وحتى اليوم، وهو التقدير بأن إسرائيل تتعرض لخطر وجودي، ليس فقط بسبب التحديات الأمنية الخارجية غير المسبوقة، وإنما أيضاً بسبب ما تعانيه من اضطراب سياسى داخلى عميق ومتفجر، ولأن تضافر هذين الأمرين معاً، وضع لا تتحمله إسرائيل بتكوينها الهش جغرافياً وديموجرافياً واجتماعياً وتاريخياً، وأن هذا يستدعي التدخل بكل قوة لتثبيت أوضاعها، لكي لا تدخل دائرة تدهور متسارعة تصل بها إلى نقطة يصعب علاجها. هذا القلق، الذي بدأ مع هجوم ٧ أكتوبر، تسبب في حالة من الارتباك والقلق الشديد على نحو أعنف وأعمق مما يبدو للمتابع العربي (الذي تعود على أن يرى من إسرائيل قوتها وتجبرها)، ودفع الدول الغربية إلى المسارعة لمساندتها بكل قوة وبدون تحفظ، الذي وصل قمته في تدخل الولايات المتحدة عسكريا إلى جانبها لأول مرة في مواجهة إيران، الأمر الذي طالما تفادته الولايات المتحدة، حتى تحتفظ بمظهر الاستقلال عن إسرائيل. وفي هذا الإطار يمكن قراءة تدخل ترامب إلى جانب نتنياهو في مشاكله السياسية الداخلية بهذا الشكل غير المسبوق، ليس لمجرد ضعف وضعه السياسي الداخلي، فهو ليس أول رئيس وزراء إسرائيلي يواجه وضعا داخليا صعبا، وإنما للخوف من أن يؤدي خروجه من الساحة السياسية إلى دخول إسرائيل حالة من الفوضى التي قد لا تكون قابلة للإصلاح، في غياب القيادات السياسية والحزبية المؤهلة لتولي المسئولية. يضاعف من صعوبة الأمر تفتت الأحزاب والقوى السياسية، وتضخم الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة، وانهيار اليسار التقليدي، واتساع نصيب الأحزاب العربية الذي يُعَقِّد قدرة الأحزاب الصهيونية على بناء ائتلافات تملك أغلبية برلمانية، وتتمتع بالحد الأدنى الضروري من التجانس السياسي. الحقيقة، أنه باستثناء نتنياهو، تبدو إسرائيل اليوم، ولأول مرة في تاريخها، خالية من الكوادر المؤهلة لمواقع قيادية، سواء على المستوى السياسي، أو في الجيش والمؤسسات الأمنية، ولم يعد بين سياسييها وجوه قادرة على تمثيلها والتعبير عنها في الخارج بالكفاءة والفاعلية المعتادة. في المقابل، امتلأت مواقع القيادة السياسية والأمنية في إسرائيل بالشخصيات الضعيفة والمثيرة للجدل (وقد يقول البعض الاشمئزاز)، والأهم من ذلك، أنها قيادات كثيرة المشاكل وقليلة الكفاءة والذكاء، والذي لم يحمِ إسرائيل منهم، إلا نتنياهو بقوته وذكائه وخبرته ومهارته السياسية الفائقة. من هنا، يمكن فهم قلق الولايات المتحدة من تصور الحال إذا خرج نتنياهو من الساحة السياسية في إسرائيل، وتشكلت الخريطة السياسية من صراعات وتحالفات القوى والزعامات السياسية الموجودة حالياً، وما ستشكله من عبء بالغ الصعوبة على الولايات المتحدة، خاصة وأن انتقال السلطة إلى هذا الجيل الجديد من القيادات سيزيد من تراجع شعبية إسرائيل في الولايات المتحدة عبر الأحزاب، وسيجعل استمرار الإدارة- أي إدارة- في دعمها أكثر صعوبة سياسياً. من هنا، يمكن فهم مبادرة الرئيس الأمريكى إلى التدخل الصريح والعلني لدعم نتنياهو شخصياً، اقتناعاً بأن هذا في المقام الأول دعم لإسرائيل، لأنه ينقذها من خطر الفوضى السياسية، وأملاً في أن يساعد ذلك على التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة دون سقوط حكومة نتنياهو، ولأنه يسهل مهمة الإدارة الأمريكية في مواصلة وفائها بمتطلبات تحالفها مع إسرائيل. *سفير مصر السابق في إسبانيا.