كتب
مروة الوجيه
فى خضم اشتعال الشرق الأوسط واحتدام التحولات الجيوسياسية، لا تبدو إسرائيل كقوة دفاعية محاصرة، بل ككيان عسكرى يعيد تشكيل الخارطة عبر النيران. فالهجمات الإسرائيلية الأخيرة التى طالت عمق إيران، لم تكن مجرد ردود أفعال، بل انطوت على رؤية استراتيجية متقدمة تتجاوز خطوط الاشتباك التقليدية، وتضع تل أبيب فى صدارة مشهد دولى أكثر تعقيدًا، حيث تتقاطع أهداف الردع التكتيكى مع رهانات تفكيك المشروع الإيرانى، بل ربما إعادة صياغة ميزان القوى فى الإقليم بأكمله.
فهل تدير إسرائيل حربًا استباقية لحماية أمنها القومى، أم تمضى فى اتجاه انقلاب عسكري–إقليمى تحت غطاء الشرعية الدفاعية؟ وهل تنجح فى إدارة حرب على سبع جبهات متزامنة، أم تتورط فى مواجهة تفوق قدراتها الاستخبارتية والعسكرية والسياسية فتنزلق إلى نفق الاستنزاف العسكرى وتخسر كل مقاومتها التى عكفت على مدار عقود لاستخدام البروباجندا الإعلامية لتضخيم حجمها حتى أصابتها الصواريخ الإيرانية فى عمق مركزها وظهرت صورة قدرتها الحقيقية؟
عمليات متعددة الطبقات
منذ 13 يونيو 2025، تشن إسرائيل واحدة من أعقد عملياتها العسكرية خارج حدودها، استهدفت خلالها مواقع داخل إيران تتنوع بين منشآت نووية (نطنز، فوردو)، ومراكز أبحاث، ومخازن صواريخ، ومعسكرات الحرس الثورى، فضلًا عما وصفه مسئولون إسرائيليون بـ«العقول التى تدير المنظومة الإيرانية من الظل».
لم تكن الضربات مجرد غارات جوية، بل شملت عمليات سيبرانية، وتفعيل خلايا استخباراتية داخل إيران، وهو ما أكده تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست فى 15 يونيو، تحدث عن «انكشاف غير مسبوق للبنية الأمنية الإيرانية أمام الموساد».
وبحسب معهد دراسات الأمن القومى فى تل أبيب، فإن العملية العسكرية الحالية تعد الأوسع من نوعها منذ قصف مفاعل أوزيراك العراقى فى 1981، غير أنها تختلف فى الأهداف، إذ لا تقتصر على تعطيل البرنامج النووى الإيرانى، بل تتجه – بحسب بعض المحللين – إلى ضرب القلب الصلب للنظام.
الحسابات معقدة
فى المقابل، ردت إيران عبر إطلاق أكثر من 150 صاروخًا باليستيًا وأكثر من 100 طائرة مسيرة نحو الأراضى الإسرائيلية، موزعة على موجتين خلال 13–14 يونيو، ما أدى إلى سقوط 24 قتيلًا وإصابات متعددة.
ورغم النجاح النسبى للقبة الحديدية الإسرائيلية فى صد معظم الهجمات، فإن بعضها أصاب أهدافًا داخل تل أبيب والنقب، واللافت أن الرد الإيرانى لم يتوسع، وهو ما فسره المحلل العسكرى الأمريكى مايكل نايتس بأن «طهران تريد تجنب التورط فى حرب شاملة، وتسعى لاحتواء الضربة الإسرائيلية مع الاحتفاظ بحق الرد المؤجل، سواء عبر الوكلاء أو من خلال التصعيد السيبرانى».
وأشار معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إلى أن «القيادة الإيرانية اختارت الرد المحدود للحفاظ على التوازن، لكنها فى الوقت ذاته بدأت تحريك خلاياها فى سوريا، والعراق، ولبنان، وربما اليمن، ضمن استراتيجية حرب بالوكالة».
واقعان متضادان
وفق مؤسسات دولية وإيرانية، تجاوز عدد القتلى فى إيران 224 شخصًا، بينهم كبار العلماء العسكريين ومديرو منشآت نووية، كما ظهرت أضرار كبيرة فى منشآت مدنية ونووية. فى المقابل تم تسجيل 24 قتيلًا إسرائيليًا وجرحى فى صفوف المدنيين. وأدت هذه التطورات إلى تكتل سياسى واقتصادى، انعكس بتصاعد قيمة الشيكل وارتفاع الأسهم والسندات الإسرائيلية.
حرب الجبهات السبع
الحديث فى وسائل الإعلام الإسرائيلية يدور حاليًا حول ما يسمى بـ«حرب الجبهات السبع»، فى إشارة إلى تعدد خطوط المواجهة: إيران، سوريا، لبنان، غزة، الضفة الغربية، البحر الأحمر (الحوثيين)، وداخل إسرائيل نفسها عبر الخلايا النائمة.
وتحذر دوائر استراتيجية غربية من أن هذا التمدد قد يؤدى إلى استنزاف إسرائيلى واسع، لاسيما مع تصاعد التوترات على الجبهة اللبنانية، خاصة بعد شن قوات الاحتلال الاسرائيلى لعدة هجمات جوية فى الضاحية الجنوبية لبيروت منذ أيام، فى وقت أعلنت فيه واشنطن أنها أرسلت تعزيزات بحرية لحماية مصالحها فى المتوسط والخليج.
فى هذا السياق، يرى كريم سجادبور، الباحث فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى، أن «إسرائيل تلعب لعبة شديدة الخطورة، فهى تحاول عبر ضربات خاطفة ومتزامنة كسر قدرة إيران على التنفس الإقليمى، لكن المخاطرة الأكبر تتمثل فى رد الفعل غير المتوقع من أحد وكلاء طهران».
وحذرت مؤسسات بحثية غربية مثل كارنيجى وأنجيكل أزمات دولية من أن الاتصال بين هذه الجبهات قد يفضى إلى مواجهات متداخلة تتسبب بإرهاق استراتيجى لإسرائيل.
الردع والتغيير
على الجانب الاسرائيلى كان التحول اللافت فى العقيدة العسكرية يتمثل فى تزايد المؤشرات على أن الحرب الحالية لا تهدف فقط إلى الردع، بل ربما إلى إحداث «تغيير جوهري» فى المنظومة الإيرانية.
فى تقرير نشرته ذا ويك البريطانية بعنوان «ما بعد الضربات: هل إسرائيل تسعى لتفكيك النظام الإيراني؟»، يشير التحليل إلى أن إسرائيل تستغل اللحظة الإقليمية والدولية للضغط نحو انهيار اقتصاد ي–أمنى داخلى فى إيران، عبر ضرب المفاصل الحيوية: الطاقة، البنية العسكرية، والقيادات العليا.
لكن خبراء القانون الدولى، وعلى رأسهم ريتشارد هاس، الرئيس الفخرى لمجلس العلاقات الخارجية، حذروا من أن «أى محاولة مباشرة لتغيير النظام فى طهران ستفتح أبواب الجحيم فى الإقليم، وستقوى الخطاب الراديكالى داخل الجمهورية الإسلامية بدلًا من إضعافه». أما فى إيران فرغم التأثير الكبير، فإن طهران يبدو أنها تنتهج سياسة الاحتواء والرد المحدود حتى الآن، فقد تردد أنها ارتأت أن تضبط أوضاعها، وتغلق ملف الاشتباكات مع واشنطن، عبر ترك المجال لردع الوكلاء من سوريا ولبنان والعراق، وتوجيه ضربات نوعية مستقبلًا.
ترامب يفاوض بالنار
من جانب آخر، خرجت الإدارة الأمريكية بدعم علنى لإسرائيل. إذ نقلت وكالات مثل رويترز عن مسئولين من البيت الأبيض تأكيدهم شاملًا لدعم «حق إسرائيل فى الدفاع»، بينما أشارت تقارير إلى تعزيزات لقوات أمريكية فى الخليج وفى قاعدة العديد بقطر.
الرئيس ترامب انخرط فى الهجوم الإعلامى عبر منصة «تروث سوشيال»، محذرًا سكان طهران من البقاء فى أماكنهم، ومطالبًا قادة الادارة الإيرانية بإعادة التفاوض النووى تحت ضغط «الحرب الإسرائيلية». وأكد ترامب أن «إيران لم تعد منتصرة»، مشيرًا إلى استعداد لـ«سلام حقيقي»، وليس تهدئة مؤقتة.
تحليلات مجموعة الأزمات الدولية وصفت هذه التصريحات بأنها «تحويل الضغط الميدانى إلى ورقة تفاوضية» تجعل من حرب إسرائيل مع إيران جسر عبور لتفاهم جديد مع واشنطن من جهته، يرى معهد بروكينجز أن واشنطن تستخدم هذه المواجهة المصيرية لتعظيم قوتها التفاوضية حول البرنامج النووى الإيرانى، دون أن تضحى بمقاتلين أمريكيين.
وبالمقابل، أعلنت طهران أن ردها «الحقيقى لم يبدأ بعد»، وأن المرحلة القادمة ستكون أكثر عمقًا واستهدافًا. واعتبر مركز راند للدراسات أن روسيا وأوروبا قد تصمتان مؤقتًا، لكن استراتيجيات الردع الإيرانية ستبنى وفق «توازن متبادل مع تفاوض دائم».
السيناريوهات الثلاثة الكبرى
1 - الاستنزاف الطويل:
يبقى هذا السيناريو الأقرب، حيث تستمر إسرائيل فى توجيه الضربات، وترد إيران عبر وكلائها دون الدخول فى حرب مباشرة شاملة. هذا النمط يعزز سياسة «الضغط المستمر» لكنه يحمل مخاطر الانفجار المفاجئ.
2 - الانهيار الداخلى الإيرانى:
إذا نجحت إسرائيل فى تفكيك قدرات النظام الإيرانى، أو أدت الهجمات إلى تصدعات داخلية كبيرة، فقد نشهد انتقالًا فى بنية الحكم، لكن احتمالات الفوضى أكبر من احتمالات التحول الديمقراطى، كما أظهر النموذج الليبى والسورى.
3 - اندلاع مواجهة إقليمية كبرى:
وهو السيناريو الأسوأ، لكنه وفق الأحداث الراهنة بعيد عن التحقيق، حيث تتدخل أطراف مثل حزب الله والحوثيين، وترد إيران بشكل مباشر، ويصبح المسرح الإقليمى كله مهددًا بالحرب، خاصة إذا دخلت أمريكا أو روسيا على الخط عسكريًا.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" روز اليوسف "
0 تعليق