حين أعلن قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة المصرية عن معرض «البدايات» 2023، وأنه مكون من عدة نسخ متتالية لرصد البدايات الأولى للفنانين من أجيال مختلفة توقعنا أن القائمين على الفعالية قد وضعوا استراتيجية ورؤية واضحة ومحددة لكل النسخ القادمة. وفكرة عرض البدايات الأولى للفنان فكرة جديدة وجيدة جدًا، وفعالية فنية تشكيلية مختلفة شكلًا ومضمونًا، وفرصة ربما لم تكرر تسمح لدارسي الفنون وللنقاد وللباحثين بإعادة قراءة مسيرة الفنان والفن المصرى، وهذا فى حالة إذا التزم الجميع بالهدف الرئيسى من العرض من منظمين وفنانين مشاركين بالترشيح.
من الموضوعية النقدية أننا قبل أن نتحدث عن النسخة الثانية لمعرض «البدايات»2025 والمقام حاليًا بقصر الفنون بدار الأوبرا، نعود للنسخة الأولى لمعرض «البدايات» 2023 حيث إن الفارق بين النسختين اتسعت فجوته ووصل لحد الاختلاف الجوهرى، بدءًا من تعددية توصيف مفهوم «البدايات» وصولًا إلى آليات ومعايير اختيار الفنانين المشاركين.
النسخة الأولى «البدايات الافتراضية»
جاءت النسخة الأولى 2023 تحت عنوان «البدايات عودة لسنوات الإبداع الأولى»، منح الفنان حرية اختيار العمل الفنى الذى يعرضه تحت مسمى «البدايات»، إذًا البدايات وجهة نظر شخصية للفنان، والعمل المعروض للفنان تم توثيقه بكتالوج وزارة الثقافة بأنه أحد أعمال السنوات الأولى. رغم المجهود الذى بذل بالعرض من كل المنظمين إلا أننا وجدنا أن طموحنا شىء والواقع المعروض شىء آخر، وأن الأمر ليس سهلًا أن يعرض الفنان أعمالًا فنية من بداياته الحقيقية، فمن الفنانين من فقد أعمال بداياته، ومنهم من لا يرغب فى عرض أعمال لأنه تخطاها بأعمالٍ أخرى، فعرض ما يراه أنها تعبر عن بداياته . لذا أطروحة مفهوم «البدايات» كمعرض فن تشكيلى تسببت فى حالة تشويش بصرى وتأريخى عند الناقد الفنى وعند مؤرخى الفن.
مشروع التخرج ليس بدايات فنان
بالعرض وجدنا أن بعض الفنانين اختاروا عرض أجزاء من مشروع التخرج بالكلية كبدايات الطريق إلى الفن، وفى هذا مفهوم آخر ملتبس، هل كان المقصود بعرض البدايات بداية طريق الفن أم بداياته الذاتية الفردية؟. وكما هو متعارف عليه أن مشروع التخرج نفذ بدعم وتوجيهات من أساتذة الأكاديمية. تلك المرحلة العمرية يكون فيها الفنان مشتتًا ومتأثرًا بأساتذته. وهنا نجد تناقضًا فى شرعية عرض مشروع التخرج بالفعاليات الرسمية بوزارة الثقافة. فلم يسمح للفنانين الشباب بدخول مسابقة صالون الشباب بمشروع التخرج لأنه ليس إبداعًا فرديًا ذاتيًا. إلا أنه سمح للفنان بمعرض البدايات بعرض مشروع التخرج تحت مسمى البدايات الأولى.!
واحترامًا لحرية اختيار الفنان لما يعرضه، فمن المصداقية أن نطلق على مشروع التخرج أنه «يعد بداية»، أو يعتبر بداية «أو التفسير المنطقى الأدق أنه «البداية الافتراضية»، وكل هذه التفسيرات والتأويلات تعنى أنه ليس البداية الذاتية للفنان.
أما الفنانون المتحققون الذين لهم بصمة وخصوصية بالحركة الفنية التشكيلية المصرية فقد حسموا مفهوم «البدايات» بأنها بداية مشروعهم الفنى المستند لمرجعيات تاريخية ثقافية وفلسفية، مثل الإرث الحضارى أو الموروث الشعبى أو الأساطير.. وغيرها.
وطرح المتحققين يتسق مع المفهوم النقدى أن بداية الفنان الذاتية هى فترة البناء الفكرى ودخول تجربة الفنان فى سياق مشروع متكامل .
بالإضافة إلى أن فكرة مشروع الفنان متسق تمامًا مع المفهوم العام للعمل الفنى بأنه تجربة جمالية تقود الفنان إلى العديد من التجارب الجمالية، ولكل مرحلة بداية قد تكون متصلة بما قبلها، وقد تكون بداية منفصلة عن ما قبلها، وهذا الانفصال لا يعنى الانفصال التام، لأن لولا ما سبقها من خطوات ما تطورت التجربة الفنية عند الفنان.
ومثلما كان من الصعب تحديد البداية الحقيقية للفنان فمن المستحيل التوصل إلى عمل فني معبر عن بدايات الفنانين الراحلين. استعان قطاع الفنون ببعض أعمال الراحلين من مقتنيات متحف الفن الحديث بالأوبرا، إلا أنها مجرد أعمال قديمة بحسب تاريخ إنتاجها، لكن ليس كل اقتناء قديم بالمتحف تعبيرًا حقيقيًا عن بداية الفنان، إلا أن رؤية الأعمال المتحفية النادرة لأول مرة، كانت إضافة بصرية تعويضية عن ندرة زيارات الشباب والفنانين للمتاحف التشكيلية. كما عرض للفنانين من جيل الألفية الذين لم تكتمل بعد شخصيتهم الفنية.
بعد انتهاء النسخة الأولى عقد قطاع الفنون التشكيلية ندوة ورصد بعض الملاحظات وسجل توصيات من فنانين ونقاد، كنا نأمل فى تصحيح مسار العرض والاحتفاظ بمفهوم «العودة لسنوات الإبداع الأولى» والذى أرى أنه كان واضحًا جدًا، إلا أن الفنانين المشاركين والقائمين على العرض أوقعونا فى بحر مفهوم البدايات، فغرقنا فى البحث عن توصيف محدود يتركز عليه العرض.
ما بعد البدايات ..
ترقب بعض الفنانين أن يكون لهم نصيب بالعرض فى النسخة الثانية، لأن فكرة البدايات ظلت مشوقة رغم اختلاف الرؤى، واستمر التساؤل المشروع أى مرحلة يمكن اعتبارها البداية الحقيقية للفنان؟. لكن يبدو أنه سوف يكون لكل نسخة من معرض البدايات توصيف جديد. النسخة الثانية فبراير 2025 والمقامة حاليًا بقصر الفنون بالأوبرا جاءت تحت عنوان: «البدايات - نقطة انطلاق وتجربة ممتدة». وفى هذا مفهوم مغاير وبعيد تمامًا عن النسخة الأولى.
ورغم توصياتنا بأن النسخة الأولى كانت تتطلب دقة فى الاختيارات وفى التأريخ والتوثيق إلا أن النسخة الثانية ذهبت بنا إلى مضمون آخر، بحسب معايير اللجنة المنظمة بعرض كل فنان من اختياره الشخصى أعمالًا فنية تمثل ثلاثة مراحل فنية تعبر عن مشروعه الفنى المتحقق، بدءًا من المحطة الأولى الفاصلة التى انطلق منها، ثم مرحلة منتصف التجربة، ثم ما وصلت إليه تجربته الفنية حاليًا (ثلاث مراحل فنية الأولى والوسط والأحدث).
وكشف الفنان من خلالها عن تطور وتتابع تجربته الفنية والجمالية، والتوصيف الأقرب للعرض الحالى أنه عرض أشبه بالاستيعادى المصغر لكل فنان لكنه استيعادى متنقص لمراحل تسكنها بدايات أخرى.
بهذا العنوان «البدايات - نقطة انطلاق وتجربة ممتدة» أحدثت اللجنة اختلافًا جوهريًا من خلال توسيع توصيف البدايات ومنحه فضاءات جديدة وهو ماذا بعد البدايات؟، وهذا توافق مع التوصيف الشائع أن العمل الفنى والفن كلاهما فى حالة بدايات مستمرة لا تتوقف إلا برحيل الفنان.
ربما رأت اللجنة أن هذا التحديث هو الخروج الآمن المنطبط لاستمرارية معارض البدايات. إلا أن هذا التحديث المهم أفرز عن معرض فنى استيعادى مختزل المراحل. نطمح بل ونطمع فى الاستفادة من طرح النسخة الثانية وليكن «ما بعد البدايات» يوضع على أجندة معارض القطاع كمعرض فنى منفصل. ونضيف له معرض «العودة سنوات الإبداع الأولى» كلاهما مضامين خرجت من رحم معرض البدايات.
وتشكلت اللجنة المنظمة من: (الفنان دكتور وليد قانوش - الفنان دكتور أحمد رجب صقر ـ الفنان الناقد محمد كمال - الفنان دكتور سعيد بدر - الفنان دكتور على سعيد، أ/محمد إبراهيم توفيق).
وضعت اللجنة أهم معيار وهو الرابط الزمنى والتاريخى لترشيح الفنانين مثل: ألا تقل تجربة الفنان ومسيرته عن 25 عامًا بالحركة الفنية، وهو ما يعنى حسابيًا عدم تجاوز الفنان مواليد 1980. وتنوع المجالات الفنية ما بين النحت والجرافيك والخزف والتصوير والرسم وغيرها من المجالات.
ونتج عن ذلك اختيار 29 فنانًا يمثلون أجيالًا مختلفة بداية من مواليد الثلاثينيات وحتى مواليد السبعينيات. اختيارات الفنانين محسومة بدقة ومتفردة وهي لكل من: الفنان سمير فؤاد، الفنان منصور المنسى، الفنان خالد سرور، الفنان هانى الأشقر، الفنان وائل عبد الصبور، الفنان محمد عبدالمنعم، الفنان محمود حامد، المثال محمد جلال، المثال مجدى عبدالعزيز، الفنانة كاريل حمصى، الفنانة عقيلة رياض، الفنانة علياء الجريدى، الفنان عماد إبراهيم، الفنان صلاح حامد، المثال عبدالمنعم الحيوان، المثال عصام معروف، الفنان سامى أبو العزم، الفنان حسام صقر، الفنان حسن كامل، الفنان جمال عبدالناصر، الفنان جلال جمعة، الفنان ثروت البحر، الفنان أسامة حمزة، الفنان إسلام زاهر، الفنانة أمينة عبيد، الفنانة صباح نعيم، والفنان على سعيد. بالإضافة إلى اثنين من الفنانين الراحلين هما الفنان سعيد حداية، والفنان خلف طايع وكلاهما له تجربة فنية ممتدة التأثير.
فض الاشتباك البصرى
رغم كل هذه الحيرة والاشتباكات فى النقاش والجدل حول استراتيجية مفهوم «البدايات» بالنسخة الأولى والثانية، مثلما أنقذت اللجنة المنظمة معرض البدايات بالاختلاف الجوهرى الذى قدمته بعرض النسخة الثانية، فيوجد من فض الاشتباك البصرى بالتنسيق وتنظيم العرض أ. محمد إبراهيم مدير قصر الفنون بكل ما يملكه من ثقافة وخبرة ورؤى واهتمامه بأدق التفاصيل التى من شأنها تُظهر مضمون العرض والأعمال بحسب رؤى اللجنة المنظمة.
تنظيم الأعمال الفنية متوازن ومتوافق باختلاف تنويعات وتعددية الأعمال الفنية شكلًا ومضمونًا من أطوال وأحجام ومساحات ما بين نحت وخزف ورسم وتصوير نسيق البديع ساهم فى أن نترك اختلاف المفهوم ولو أثناء مشاهدة العرض. كما منح كل فنان مساحة براح تناسب نوعية أعماله. ويمكن للمشاهد الاستمتاع بالأعمال، وتأملها بارتياح وهدوء، لا ضجيج ولا ازدحام ولا تشويش. وبرؤيته كناقد فنى أرفق بجوار كل فنان نماذج مطبوعة مكبرة من دراسة نقدية تحليلية استيعادية كتبت عن الفنان وتتسق مع العمل المعروض، وبجانب كل عمل توصيف زمن إنتاجه.
كلمة أخيرة
وحتى لا يهدر مجهود الجميع علينا أن نتناقش قبل انتهاء عرض النسخة الثانية ونطرح تساؤلات مشروعة أولها: هل تجديد وتحديث بمفهوم البدايات بكل نسخة ليس خروجًا عن الهدف الرئيسى بل إضافة مكملة للهدف؟.
والثانى: هل التحديث أفسد وأضاع هوية النسخة الأولى؟.
ثالثًا: بما أن من البديهى أن العودة لسنوات الإبداع الأولى كانت تتطلب رؤية ما بعد البدايات، ويليها ما آلت له تجربة حاليًا، فما الداعى لوجود سلسلة معارض تحت مسمى «البدايات»؟!
وعلى جانب آخر لم يتم تكليف النقاد أو حتى النقاد الشباب بشكل رسمى وتفرغهم بتقديم دراسات تفصيلية عن ما هو معروض، مهما اختلفنا مع التوصيف نريد حق الفنانين المشاركين أصحاب التجارب الفنية الجادة فى قراءة أعمالهم نقديًا. بدلًا من أن نقرأ مع كل عرض الاتهام المعد مسبقًا أين الحركة النقدية؟ وأين النقاد؟.
وتجاهل التوثيق المدروس بالنسختين الأولى والحالية يجعل الفعاليات تمر مرورًا عابرًا، ونصمت ونكتفى بالكتالوجات التى عادة ما تصدر متأخرة، وتخلو المكتبة النقدية من إصدارات عن الحركة الفنية التشكيلية المعاصرة، ولا نعرف أين نحن من الاتجاهات الفنية المعاصرة والعالمية، وليس لدينا سوى كتابات متناثرة اجتهادية لا يعول عليها بحثيًا وتوثيقيًا.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" روز اليوسف "
0 تعليق