(إصحَ يا نايم.. وحِّد الرزَّاق.. رمضَان كريم)
ومع النفحات الروحية العطره لشهر رمضان المبارك يفوح شذا عطر الإيمان وتحلو الذكريات الجميلة لشهر الصوم .. وعبر بوابة الجمهورية أون لاين عبر نافذة “المساء” يتجدد اللقاء كل يوم مع رمز من رموز أبناء مصرنا الغالية من العلماء والمفكرين والأدباء والإعلاميين وأساتذة الجامعات.
????
بقلم ✍️ أحمد فاروق بيضون ( أديب وشاعر)
ها هوَذا الراحل الرائع سيد مكاوي يطنبنا بأهازيج المسحَّراتي السرمدية في كل مكان وأوان مُعطَّرةً بما جادت به من قريحة الشاعر العبقري ابن البلد فؤاد حداد؛ يشدوان بترانيم السحور في ميادين مصر المحروسة في الستينيات والسبعينيات من القرن الميلادي المنصرم، وقتئذ كانت الشوارع معتقة بنفحات الشهر المعظم الكريم.. رمضان المبارك.. وأيَّما فرحة!.. لمَّا كانت الصغار تهرع للطرقات تتغنى برائعة الملحن أحمد عبدالقادر.. وحوي يا وحوي إياحة.. ومحمد عبدالمطلب (رمضان جانا وفرحناله).. هب أنها كانت فترة الازدهار الفني على كافة الأصعدة وظهر ثلاثي أضواء المسرح بنكهتهم المرحة التي تشبه الاستعراض الدرامي لعرض الفوازير بالستينات وتلاها فوازير نيللي بالسبعينات ثم فوازير فطوطة الراحل سمير غانم بالثمانينات ثم شريهان وتوالت المخرجات الفنية على شاشات التلفاز لفهمي عبدالحميد بوتيرة مميزة، يعزو ذلك لطابع المجتمع المصري الذواق للأدب والفن بتلك الحقبة الزمنية التي بلورت هنداماً وقمطراً من روائع الكنوز الرمضانية المتلفزة وكذلك عبر أثير الراديو لبابا شارو وفؤاد المهندس وأبلة فضيلة، الجميع كان يتآلبون حول الشاشات ممسكين فوانيساً من النحاس يتوسطها شمعات ذات فتيل مضيء ليبعث قبساً نورانيا يغزو الشوارع والأزقة، لا يكاد يُذكرغافيةٌ للصغار المنغمسين في حبور وجذل قبيل مطلع الفجر وسماع مدفع الإمساك إلى أحايين مدفع الإفطار وسماع إيذان صلاة المغرب لشعيشع والمنشاوي بعد تلاوة عطرة وتبتل لطيف آي الذكر الحكيم من الشيخ الحُصري وتواشيح نصر الدين طوبار وحلقات إمام الدعاة الشيخ متولي الشعراوي؛ يالها من ذكريات موشاة برياحين ومسك عبأ خاصرة أوقات بائدة نعيش على ذكراها ونستلهم محياها، ناهيك عن آثرة الأجداد من أنواع الأطعمة التي استمرعلى نهجها الأجيال، بالطبع—اختلفت الرواية وتجذرت العادات والتقاليد.. فكما يقال.. لكل حادث حديث؛لما انبرت العولمة الطفرة التكنولوجية مذاك الحين لما انتصفت التسعينات قبيل حلول القرن الحادي والعشرين الجديد، لقد طغت الحداثة على كل شيء وبخاصة لما أصبحنا نرى الصورة بالألوان ونمور موراً في شاشات ثلاثية الأبعاد وغزونا الفضاءات بالأقمار، وأصبح هذا العالم قرية صغيرة وتركنا الباب على مصرعيه للانفتاح على الثقافات الغريبة، أما عني فقد أطرقتُ حزيناً!
أذكر جلياً كقرص تنور باذغ بأنا لم نعد نجتمع كسابق عهدنا حول (الطبلية).. فهناك بدائل فارهة كأننا استبدلنا جلباب السابقين بقصر منيف زائف لبهرج الحداثة.. زد من الشعر بيتاً بأن الفوانيس أصبحت كالدمى وتعمل بالبطاريات وتزدان
بأغاني لمطربي ذاك العهد، ربما ما يشفع لنا أطباق ورق العريش المحلى بحساء البط والفروج في أول يوم للإفطار وكل ما لذ وطاب وأفراد الأسرة متراصة تلتهم في نهم رقائق الملفوف باللحم والقديد والثريد، ما بالك بصحن الجوار يعجُّ بالحلويات من الهريس والبسبوسة والبقلاوة والقطائف وبلح الشام.. نلوس حلاوة المدلَّعة والجزيرية والملبن والبقلاوة بالإضافة إلى القطائف ولقمة القاضي والياميش من لوز وبندق وعين الجمل الكاشو والفول السوداني، زد من الشعر بيتاً من مشروبات مرطبة من قمر الدين والخروب والتمر الهندي، لكن الخير مازال فينا لما أجده من خيم رمضانية بنكهة الحداثة وسفسطة مستجدات التخت الموسيقى والسيفونيات بمنأى عما اعتدنا سماعه منذ الأزل، قرُّ المطير يعتق الجدران والدروب يعلوها ورواب لم يتح للصغار اللعب في رمضان ذاك العام البائد؛ (البومب) وتلكم الصواريخ الورقية برهَج مفرقعات كان شيئا عجيباً ارتأيته بمحاجر عيني عصف ذاكرة الصبا، وكذلك مازال يتناهى لأسماعي تلاوة ترتيل ساحرة للشيخ عبدالباسط عابرة لكل زمان، الهواتف الجوالة المحمولة أفسدت أواصر العلاقات وصلة الرحم في هذا العالم، لم يعد رمضان كما عهدته ويكأن تلك المحطة الإنسانية قد أخطأت جهتها وحادت عن حادة الصواب، صوم رمضان بالنسبة لنا علاوة على أنه ركن مفروض على كل مسلم بالغ عاقل ويعني الإمساك عن الموبقات والكبائر والملذات واللجوء إلى كنف الله وتوطيد وتعضيد التآخي والتراحم، بل ويحمل في العشرة الأواخر ليلة القدر الموسومة بأجمل الأدعية والأقدار في لياليها الوترية فيهرع المسلمون المأمومون في تضرع وخشوع للخالق البارئ ليقبل أوبتهم ويطهرهم من الآثام، إلا أنه افتقد ذاك المناخ الأسري والتجانس بين الأخ وأخيه والفذّ وجاره.. أيناه تلك البركات والأنسام!.. وإن غاب أحدنا عن ركب ذاك القطار السعيد بترانيمه المتناغمة فكنا نذهب لإحضاره على الفور، يالها من أيامٍ تشعرها لمّا تغمض عيناك وينبو خافق بين رجيفٍ ووجيف، فترتسمَ ضحكاتٍ تمسد الثغور في هذا الأوان.. بتُّ لا أسمع الاهازيج في الطرقات وكذلك لم تعد شوارع الحسين وخان الخليلي والمعز لدين الله مكتظة بالموشحات والابتهالات الروحانية.. فهل تغيرت نفحات رمضان أم نحن من أصبحنا مغايرين.. لا شيء يجمعنا سوى نثار قارعة صور تتواتر في الأذهان ونحن في وقت الإفطار ندعو المعطي المنَّان قانتين: ( اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت.. ابتلت العروق وذهب الجوع والظمأ.. وثبت الأجر إن شاء الله.. بسم الله)، ومع انقضاء آخر ليلة من ليالي رمضان.. يغتال أهداب الأسماع أغنيةٌ مؤسطرة في وجدان الأمة لمُحمد قنديل: (والله بُعودَه.. بُعوده والله.. يا رمضان!…)
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" almessa "
0 تعليق