رغم تقديم سعيد صالح للسينما 500 فيلم، فإنه كان يفضل المسرح وقدّم من خلاله أكثر من 300 عرض، كان يُعبر خلالها عن الشعب، وتعرّض للسجن أكثر من مرة، وتسببت آخر مسرحياته "قاعدين ليه" في حدوث حراك سياسي خرجت منه حركة "كفاية".
"شلة العيال".. هكذا عرفهم الجمهور منذ إطلالتهم الأهم في بداية مشوارهم من خلال مسرحية "مدرسة المشاغبين"، يقول عنهم الكاتب الراحل محمود السعدني في كتابه "المضحكون": "هذا هو آخر فوج من المضحكين، ولا نستطيع أن نتكهن بالمستقبل لهم، لأن المستقبل بالنسبة لهم ما زال في علم الغيب، وقد تأتي الرياح بما يشتهي المضحكون، وقد تأتي الرياح بما يشتهي المضحكون"، وبالفعل أتت الرياح على بعضهم بما اشتهاه، وصار عادل إمام وأحمد زكي مدرستين هامتين في تاريخ السينما المصرية، إلا أن سعيد صالح كان له أسلوبه الخاص ولم يأبه سوى بتقديم ما يحب.
يقول السعدني عن سعيد صالح "كان موهوبًا متشردًا هاربًا من الدراسة، شديد الضيق بها، هائمًا على وجهه يبحث عن نفسه، مفكوك صماويل العقل وزراير البنطلون، يملك موهبة كما البحر لا حد لها ولا أعماق، ولا يملك من نوع العقل شيئا يصلح لإدارة هذه الموهبة العظيمة، ولا شك أنه وجد نفسه فجأة في مسرح".. بحث سعيد صالح عن نفسه ولم يجدها سوى على خشبة المسرح الذي انطلق منه، كل ذلك على الرغم من أنه اشترك في أفلام سينمائية يصل عددها إلى 500 فيلم، وطالما افتخر بذلك قائلًا: "أنا اشتركت في ربع أفلام السينما المصرية".
ظهرت موهبة صالح المسرحية مبكرًا، منذ انضامه إلى المسرح المدرسي، ونال فرصة التمثيل لأول مرة من خلال مسرح التليفزيون في عام 1962، بعد أن اجتاز الاختبارات متفوقًا على باقي زملائه، فحصل على المركز الأول، ليبدأ مشواره الفني من خلال الفرق المختلفة بمسارح التليفزيون والتي قدم بها العديد من الأدوار الصغيرة، وكانت مسرحية "هالو شلبي" عام 1969 أولى خطواته نحو الشهرة.
أحب المسرح وأخلص له، فكان حريصًا كل الحرص على أن يقدم مسرحا مختلفا وجيدا وجريئا، ومن أشهر ما قدّمه عقب "مدرسة المشاغبين" مسرحية "العيال كبّرت" مع نفس طاقم العمل، ولكن لم يشارك فيها عادل إمام، ويعتقد كثيرون أنها حققت نجاحًا فاق نجاح سابقتها، ولو حسبنا عدد المسرحيات التي قام سعيد صالح ببطولتها سوف نعدد الكثير منها، بل إنه من شدة العشق والوله بفن المسرح تحديدًا قام بإنشاء فرقة مسرحية مع صديقه وزميل عمره حسام العزيزي، وقدّم عددًا من المسرحيات، وحقق نجاحًا شخصيًا ولم يحقق ربحًا ماديًا.
يصل رصيده المسرحي إلى ثلاثمائة مسرحية، وكان يصف نفسه بـ"فتى المسرح"، واشتُهر بخروجه على النص في أدواره المسرحية، لإدخال بعض الحيوية و"القفشات" السياسية والاجتماعية التي تُعجب الجمهور في أعمال عديدة منها "نحن نشكر الظروف، اخطف واجري، الشحاتين، حلو الكلام، شرم برم"، وهو ما تسبب في دخوله السجن أكثر من مرة.
ذات مرة غضب سعيد صالح حينما وجد شخصًا نائمًا أثناء عرضه مسرحيته "لعبة اسمها الفلوس" على مسرح "الحرية" بالقاهرة، فأوقف العرض وعاتب ذلك الشخص أمام الناس، فوجئ بعدها بمقاضاة الرقابة له، بعد إعدادها تقريرًا يتهمه وزميله سعيد طرابيك، بالخروج عن النص واستخدام إيحاءات جنسية، فضلًا عن خلعه لبنطاله على المسرح أمام الحضور، وهو ما لم يحدث.
أُحيل كل من سعيد صالح، وسعيد طرابيك، ومدير المسرح إلى المحاكمة، وصدر حكم بحبس سعيد صالح لمدة 6 أشهر، مع تغريمه 50 جنيهًا هو وزميليه، فقاما بالطعن على الحكم، ومن ثم تم إلغاؤه، فأُحيلت الدعوى إلى دائرة جنوب القاهرة لنظرها من جديد، وانتهت القضية ببراءة المتهمين.
مرت الأيام وذهب سعيد صالح لعرض المسرحية على مسرح سيد درويش في الإسكندرية، وحققت نجاحًا كبيرًا هناك، نظرًا للبلبلة الإعلامية التي سببتها من قبل، ولكن فريق عمل المسرحية فوجئ بتقرير جديد للرقابة على المصنفات الفنية يحوي اتهامات جديدة بجانب الاتهامات القديمة، وتحول الأمر إلى عداوة واضحة بين سعيد صالح والرقيب الفني، وتم إحالته للمحاكمة مرة أخرى، وخلال الجلسة ألقى الرقيب الفني خطبة اتهمت سعيد صالح بخدش الحياء العام، والتدني بالذوق الفني، وكانت المفاجأة في إصدار القاضي محمد بدر حكمًا بحبس سعيد صالح احتياطيا 7 أيام، وهي المرة الأولى التي تم فيها حبس فنان احتياطيا على ذمة قضية.
وقع الحكم كالصاعقة على رأس صديق عمره الفنان عادل إمام، لدرجة أنه توجه بحسن نية إلى منزل القاضي ومعه 3 محامين ليطلب منه الإفراج عن سعيد صالح، فما كان من القاضي محمد بدر إلا أن أنذر الفنان بمغادرة منزله وإلا اتخذ إجراءات قانونية ضده، وفي الجلسة التالية اعتذر إمام عن ذلك السلوك، ثم وقف في المحكمة ودافع عن صديقه واصفا محاكمته بأنها محاكمة للفكر المصري، وهي العبارة التي استفزت القاضي أكثر فيما يبدو، لكنه سمح أيضا للفنان يونس شلبي بالحديث، وكانت المرة الأولى التي يرى فيها الجمهور شلبي يتحدث بجدية، إذ قال في كلمته التي ارتجلها بحرارة إن صديقه سعيد صالح "فنان مبدع يستلهم فنه من خلال حواره مع الجمهور ولا يجوز تقييد موهبته بل يجب أن يعيش الدور بكامل حريته ولا يحاسب على لفظ خارج على النص وإلا ما اعتبر هذا فنا"، لكن القاضي محمد بدر لم يتأثر بالمدافعين، وأنهى الجلسة باستمرار حبس سعيد صالح.
وبعد 17 يومًا من الحبس الاحتياطي لسعيد صالح، تنحى القاضي عن نظر القضية، بحجة أنها صارت قضية رأي عام، يتناولها "كل من هب ودب"، وبعد تنحيه أصدر عبد الوهاب أبو الخير، القاضي المنتدب لنظر القضية، قرارًا بالإفراج عن سعيد صالح بضمان مالي مئة جنيه.
بعد 13 عامًا من واقعة الحبس الأول لسعيد صالح، أجرى رشاد كامل، الصحفي المتخصص في أخبار الحوادث حوارًا معه، ليضعه في الفصل الذي خصصه لقضية سعيد صالح في كتابه "نجوم وراء القضبان"، وخلاله كشف "صالح" لأول مرة الأسباب الحقيقية لحبسه لمدة 17 يومًا قال: "دي كانت أيام سودة بعيد عنك.. القاضي كان واخد مني موقف، أصله مرة حضر لمشاهدة المسرحية، وأثناء عرضها نام، فأوقفت العرض وعاتبته.. طبعًا ما كنتش أعرف إنه قاضي، لكن لما روحت المحكمة تذكرته وقلت بس وقعتك سودا يا سعيد".
مرة ثانية سُجن فيها سعيد، بسبب مونولوج له بإحدى المسرحيات، قال فيه "أمي اتجوزت ثلاثة، واحد وكلنا المِش.. والتاني علِمنا الغش.. والتالت لا بيهش ولا بينش"، قاصدًا بذلك رؤساء الجمهورية الثلاثة على الترتيب عبد الناصر والسادات ومبارك، الذين تناوبوا على حكم مصر، وقامت ثورة كبيرة ضده يرأسها وزير الإعلام وقتها صفوت الشريف، الذي سحب ترخيص المسرحية، وتم القبض عليه بتهمة إهانة رؤساء مصر، وبالفعل وضع في الحبس الاحتياطي لمدة 45 يومًا، وحُكم عليه بالسجن ستة أشهر، حتى صدر عفو رئاسي عنه من الرئيس محمد حسني مبارك.
يقول الراحل عبد المنعم مدبولي في مذكراته إنه بعد أن أُحيل سعيد إلى المحاكمة وحكموا عليه بالسجن وأمضى فترة العقوبة فى سجن الحضرة بالإسكندرية، كان هو عادل إمام وصلاح السعدنى ويونس شلبي يسافروا له في كل يوم جمعة من أجل لقائه، وهناك وجدوا أنه "قد كوّن فريقًا للتمثيل، وطلب كل أعمال كبار شعراء العامية، وأمضى أيامه هناك يشيع البهجة والسعادة ويُلقى بالقصص والنكات التي حولت هذا المكان البشع إلى واحة للفن والفكر والسعادة، لذلك كان اليوم الذي خرج فيه سعيد صالح من السجن يومًا حزينًا حتى له هو شخصيًا".
عاد سعيد صالح للفن مرة أخرة، إلا أنه لم يعد بالشكل الذي كان عليه، ولم يستطع مزاولة المسرح وفن الخروج على النص الذي يجيده، إلا أنه دائمًا ما كان خارج التوقعات، ورغم التضييق عليه، نجده بعدها في مسرحية "كعبلون" يُغني "ممنوع من الكلام" لشاعر العامية الراحل أحمد فؤاد نجم، وكان جمهوره من الشباب الذي ينشد أحلامًا ويتمنى تغييرًا، فتجاوب الجميع معه وانكسر الحاجز وأصبح الغناء تقسيمة ما بينه والجمهور الذي لعب دور الكورال، وظلّ الكل يغني:
ممنوع من السفر.. ممنوع الغنا
ممنوع من الكلام.. ممنوع من الاشتياق
ممنوع من الابتسام.. ممنوع من الاستياء
وكل يوم في حبك.. تزيد الممنوعات
وكل يوم باحبك.. أكتر من اللي فات
حبيبتي يا سفينة.. متزوقة وحزينة
في كل حارة حسرة.. وفي كل قصر زينة
محمود السعدني محتضن "شلة العيال" في بداياتهم الفنية، كتب حينها يقول: "أتمنى من الله بعد أن شاهدت التغيير الرهيب الذي جرى لسعيد صالح بعد تجربة السجن أن نسجن سمير غانم وسيد زيان وحسن مصطفى ويونس شلبي".
آخر ما قدّمه الفنان القدير الراحل للمسرح كان مسرحية "قاعدين ليه" (2005) والتي قدّم فيها الفنان الشاب محمد رمضان، وقال عنه العرض في حديث لوكالة الأنباء الألمانية، إنه يعتبره أفضل عروضه المسرحية التي قدّمها طوال حياته، حيث إن العمل ساهم في حدوث حراك سياسي في مصر وخرجت من عباءته حركة "كفاية" المعارضة والتي قادت فيما بعد ثورة 25 يناير.
يُلخص سعيد صالح مشواره وحبه للمسرح دون غيره في أواخر أيامه في حوار له ببرنامج "بدون رقابة" (2012)، ويقول: "أنا ماليش في السينما اسألوني عن المسرح، أنا ماحبتش السينما والتليفزيون، لقيت نفسي في المسرح أكتر، كل الحكاية إني مانبسطتش في السينما زي ما انبسطت في المسرح، الناس دايمًا كانت عايزاني أركز في السينما والتليفزيون وأنا عمري ما كنت عايز كده، واللي يحبني في أفلامي المفروض يحبني في أي شيء أقدّمه".
نعم أحببنا سعيد صالح في كل ما قدّمه حتى ودعنا ورحل في 1 أغسطس 2014، إلا أنه سيظل بموهبته العبقرية أحد أعظم الكوميديانات التي أنجبتهم الساحة.
بالبلدي | BeLBaLaDy
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" التحرير الإخبـاري "
0 تعليق