لم يعد المشهد السوداني محصورًا في خنادق القتال بين طرفين، بل بات مفتوحًا على احتمالات إعادة تركيب الدولة من جذورها، عبر ممرات ميدانية ودبلوماسية وإعلامية، تتقاطع عند سؤال واحد: من سيملك حق إعادة تعريف السودان؟
وسط هذا التحوّل، تتسارع ديناميات إعادة التموضع، وتتحرك القوى الأساسية– كلٌّ بطريقته– لفرض موقع تفاوضي أو إملائي في ترتيبات ما بعد الحرب، حتى وإن لم تُعلن رسميًا. الجميع يتحدث عن تسوية، لكن لا أحد يقصد الشيء ذاته. في قلب هذا التحول، تبدو الحكومة المركزية– رغم ما واجهته من عثرات واستقطاب داخلي– وكأنها استعادت بعض توازنها. الخلافات التي عطّلت أداءها طيلة الأشهر الماضية، بدأت تنحسر بفعل توافق ضمني بين المكونات الداعمة للجيش، وقراءة سياسية أدق للمشهد. هناك توجه واضح نحو ترميم المشروعية السياسية، ومحاولة بناء مؤسسات مدنية تؤسس لخطاب دولة مقابل منطق الحرب. ويُتوقع أن يتم خلال أيام الإعلان عن حكومة مكتملة، يرأسها الدكتور كامل إدريس، في خطوة تهدف بالأساس إلى تقديم واجهة دستورية، تمثّل السودان رسميًا أمام الداخل والخارج، وتدعم مركز الدولة كمصدر وحيد للمشروعية السياسية والقانونية. هذا التوجه ليس فقط محاولة لإنتاج سلطة مدنية، بل تأكيد على أن السودان دولة واحدة، لا تُختزل في جغرافيا السلاح، ولا تُجزّأ عبر خرائط مؤقتة، تفرضها البندقية أو التموضع المرحلي.
لكن لا يمكن إغفال أن هذه الدولة المركزية، رغم محاولاتها لبناء مسار مدني جامع، تواجه ضغوطًا واضحة – وإن لم تُعلن صراحة – من بعض الأطراف الدولية والإقليمية لإعادة فرز مكوناتها السياسية، وعلى رأسها التعامل مع ملف الإسلاميين، الذين ما زالوا مثار توجّس في العواصم التي تربط الاستقرار باستبعادهم الكامل من المشهد. ويمكن القول إن المركز استجاب بدرجة محسوبة لهذه الضغوط، من خلال الدفع بوجوه سياسية في التشكيل المرتقب عُرفت سابقًا بمناهضتها لنظام عمر البشير أو بوقوفها الحازم ضد تمدده في المجال العام. هذا التحرك، وإن بدا بطيئًا ومتدرجًا، يحمل دلالة على إدراك الحكومة لحساسية المرحلة، ومحاولتها لطمأنة الخارج، دون أن تدخل في مواجهة مفتوحة مع الداخل.
من جهة أخرى، فإن التيار الإسلامي نفسه– أو على الأقل قطاعًا منه– يبدو واعيًا بهذه اللحظة، ويتّبع تكتيك الاحتجاب أو الظهور الخافت، فيما يشبه محاولة لكسب الوقت أو تفادي الاستهداف المباشر. فالحركة السياسية للإسلاميين الآن، تميل إلى الاختفاء المؤقت، وربما تُراهن على التغيرات القادمة لاختبار حدود العودة من جديد. في المحصلة، فإن مسار إبعادهم أو تقليص نفوذهم يمضي بالفعل، لكنه يتم بحذر شديد، ليس فقط خشية رد الفعل الداخلي، بل لأن الدولة المركزية تدرك أن إعادة بناء المشهد السياسي، لا يمكن أن تقوم على الإقصاء الميكانيكي، بل على إنتاج توافقات دقيقة، تُبقي الباب مواربًا، دون أن تُغلقه تمامًا، أو تفتحه بلا حساب.
في المقابل، تتحرك قوات الدعم السريع بخطى متسارعة نحو فرض واقع سياسي موازٍ، من خلال إعلان مرتقب لحكومة في مناطق سيطرتها، بالتنسيق المباشر مع الجيش الشعبي بقيادة عبد العزيز الحلو. الناطق الرسمي لتحالف “تأسيس”، علاء نقد، أشار إلى أن ترتيبات هذه الحكومة جرت بشأنها مشاورات مع فاعلين إقليميين ودوليين، وحصلت على ما وصفه بـ”الضوء الأخضر”، إلى جانب تواصل بعض المنظمات الدولية معها بوصفها حكومة أمر واقع. هذه التحركات لا تقتصر على تشكيل هياكل إدارية، بل تشمل خطوات رمزية عميقة، قد تصل إلى إصدار عملة محلية وجواز سفر وبناء مؤسسات متكاملة، في محاولة لإنتاج كيان سياسي سيادي داخل مناطق النفوذ، يُقدَّم للعالم بوصفه واقعًا جديدًا، يجب التعاطي معه. إلا أن هذا المشروع، رغم تنظيمه، يظل قائمًا على معادلة القوة لا المشروعية، ويهدد وحدة السودان أكثر مما يرممها. فحتى إن استطاع فرض وقائع على الأرض، فهو يكرّس تفكك الدولة، ويخلق بيئة سياسية تشجع النزعات الانفصالية، وتُقنن سلطة السلاح على حساب العقد الوطني الجامع.
في ظل هذا الاستقطاب، تبرز القوى المدنية كعنصر يتلمس موقعًا في المعادلة، وإن بدا الأضعف ميدانيًا. لكنها بدأت مؤخرًا، تبني خطابًا أكثر وعيًا وتماسكًا، يعكس تحولات حقيقية في استراتيجيتها. تجاوزت بعض قواها خطابات الإقصاء المطلق، خاصة تجاه التيارات الإسلامية، وبدأت تتحدث عن قابلية الشراكة المشروطة مع من يراجع مواقفه، ويعتذر عن تجربة الماضي، ما يشير إلى انفتاح جديد، يوازن بين الواقعية السياسية والمبادئ. كما اتجهت هذه القوى إلى إعادة تنظيم صفوفها، وتفعيل شبكاتها الشبابية، وتكثيف حضورها في المحافل الإقليمية والدولية، في محاولة لإثبات، أنها لا تزال طرفًا مركزيًا لا يمكن تجاوزه، وأن مشروع الدولة الديمقراطية لم يمت، بل ينتظر ظرفًا وطنيًا جامعًا ليعود إلى الواجهة.
ومع ذلك، فإن هذا الطيف المدني ليس كتلة واحدة. إذ يظهر داخله تيار يساري راديكالي، يحاول إعادة إنتاج أدوات التعبئة التي استخدمها خلال انتفاضة 2019، مثل لجان المقاومة والتظاهرات المفاجئة والخطاب الثوري القاطع تجاه كل من ارتبط بالسلطة أو الجيش أو الإسلاميين. هذا التيار، رغم حضوره في بعض المدن، يواجه صعوبات حقيقية في التأثير العملي، ويبدو أحيانًا، وكأنه يعيد طرح شعارات غير قادرة على مخاطبة السياق المعقد للحظة الراهنة. وفي بعض الحالات، تسهم حركته في إرباك مساعي إعادة بناء الدولة المركزية، ليس لأنه يملك بديلًا واضحًا، بل لأنه يرفض كل الخيارات المطروحة دون تقديم مسار قابل للتطبيق، ما يضعف قدرته على التحول من دور الاحتجاج إلى دور الشراكة السياسية المؤثرة.
في الأثناء، تتحرك القوى الإقليمية والدولية من خلف الستار وفق مقاربات، تحكمها اعتبارات المصالح لا المبادئ. بعض العواصم المؤثرة ترى في الحرب تهديدًا مباشرًا لأمنها وحدودها، وتسعى لضمان مخرجات، لا تضر بنفوذها التاريخي في السودان، حتى وإن جاء ذلك على حساب بناء سلام مستدام. دول أخرى تنظر للمشهد كفرصة لإعادة توزيع النفوذ السياسي والاقتصادي، مستفيدة من الانقسامات الداخلية، ومتجنبة الاصطفاف الحاد مع أي طرف. فاعلون دوليون بدورهم، يتعاملون مع الواقع السوداني بمنطق “إدارة الأزمة” لا حلها، ويراهنون على ترتيبات سياسية مرنة، قد لا تنصف الضحايا، لكنها تُرضي أطراف الصراع، وتضمن الحد الأدنى من الاستقرار القابل للتفاوض. في ظل هذا التعقيد، يتضح أن مستقبل السودان لم يُكتب بعد، وأن نافذة التأثير لا تزال مفتوحة، لكنها تضيق بسرعة أمام من يتردد أو يتشتت.
أمام هذا المشهد، تتعدد السيناريوهات الممكنة، وكل منها مرهون بموازين القوى وتدخلات الخارج وسرعة التحرك من الداخل. أحد السيناريوهات يتمثل في نجاح الدولة المركزية في تثبيت سلطتها السياسية والمؤسسية، من خلال الحكومة المدنية المنتظرة، والتي قد تفتح المجال لتوسيع قاعدة المشاركة المدنية ضمن مرجعية موحدة، ما يعزز فرص العودة إلى مسار انتقالي، يقوم على الشمول وإعادة بناء المؤسسات. هذا السيناريو مرهون بمدى جدية الحكومة في تجاوز منطق الغلبة العسكرية، وبناء عقد اجتماعي جديد، يشمل الجميع.
سيناريو مقابل يعمل عليه تحالف الدعم السريع والجيش الشعبي، ويتمثل في إعلان حكومة موازية بمناطق سيطرتهم، مدعومة بتفاهمات مع بعض الأطراف الدولية والمنظمات، وقد تتطور هذه الحكومة إلى كيان يحمل سمات الدولة بسياسات ومؤسسات ورموز سيادية، وهو سيناريو يحمل خطرًا جسيمًا على وحدة السودان، ويضع البلاد على مسار انفصال زاحف، يُغلَّف بلغة الفيدرالية أو اللامركزية.
سيناريو آخر، قد ينتج عن ضغوط دولية عاجلة لوقف إطلاق النار، ويأخذ شكل تقاسم سلطة مؤقت بين الجيش والدعم السريع تحت رعاية إقليمية ودولية، ما قد يؤدي إلى استقرار هش، تُعاد فيه صياغة الحرب بلغة سياسية مؤقتة، قد تنهار سريعًا.
احتمال رابع، يقوم على انهيارات داخل أحد معسكري الحرب، سواء داخل الجيش بفعل صراعات القيادة أو داخل الدعم السريع؛ بسبب تفكك تحالفاته. مثل هذا السيناريو يعيد البلاد إلى فوضى مسلحة بلا مركز ولا مشروع، ويُفجّر أزمات، يصعب احتواؤها أو التفاوض حولها.
أما السيناريو الخامس، فيقوم على انبعاث قوى مدنية بصيغة جديدة، تتجاوز خلافاتها، وتعيد ترتيب أولوياتها، لتطرح نفسها كبديل وطني جامع. إن تمكنت هذه القوى من كسر حالة التردد، وتقديم خطاب يتجاوز الاصطفافات الأيديولوجية، ويطرح مشروعًا مقنعًا للداخل والخارج، فإنها قد تملك فرصة تاريخية لإعادة تعريف المرحلة، وقيادة التحول من منطق الحرب إلى منطق الدولة.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" masr360 "
أخبار متعلقة :