كتب
رشدى الدقن
«لا لأخونة وزارة الثقافة».. كان هذا هو الشعار الأبرز والأهم والذى يُعد الشراراة الأولى لانتفاضة الشعب كله ضد حكم المرشد...فتحت هذا الشعار اصطف جموع المثقفين ضد حكم محمد مرسى وجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية.
قبل ثورة 30 يونيو بأيام قليلة، وبعد ساعات من تعيين علاء عبدالعزيز وزيرًا للثقافة، وإنهاء خدمة عدد من قيادات الوزارة البارزة، ثار الغضب المكتوم فى القلوب طوال عام حكم الإخوان.. غضب جموع المثقفين المصريين، واعتبروها خطوة لأخونة الوزارة المسئولة عن الفعاليات الفنية والثقافية، والتى ترفض أغلبها الجماعة التى تحكم البلد من مكتب الإرشاد بالمقطم.
كان اعتصام المثقفين أمام وزارة الثقافة، قبل انطلاق ثورة 30 يونيو بعدة أيام فى عام 2013، بمثابة الشرارة الأولى لإرهاصات الثورة المصرية وخروج الملايين للشوارع والميادين بهتاف واحد ومَطلب وحيد «يسقط يسقط حكم المرشد».
احتج المثقفون على الطريقة التى أدارت بها جماعة الإخوان ملف الثقافة قبل ثورة 30 يونيو؛ فأقاموا احتجاجًا حاشدًا على القرارات التى اتخذها الوزير الإخوانى «علاء عبدالعزيز» الذى سعى لتغذية مفاصل وزارة الثقافة بأبناء الجماعة، وسعى فى طريق موازٍ إلى استبعاد الفنانين والكُتّاب أصحاب التاريخ العريض من أى منظومة ثقافية، فـأقصى الدكتور أحمد مجاهد من هيئة الكتاب والدكتورة إيناس عبدالدايم من الأوبرا.
فى البداية ذهب الكاتب الكبير بهاء طاهر مع الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم، والشاعر الكبير سيد حجاب، والكاتبة الكبيرة فتحية العسال، إلى وزارة الثقافة فى الزمالك، وطلبوا لقاء الوزير الإخوانى لتقديم طلب له، وحينما قيل لهم بأنه غير موجود فى مكتبه، طلبوا انتظاره لحين عودته، ومع دخولهم مقر الوزارة وانتظارهم بداخلها، أعلن بهاء طاهر عن الاعتصام من داخل وزارة الثقافة، لينتقل على الفور اعتصام المثقفين من دار الأوبرا، إلى الوزارة فى الزمالك.
وكتبوا بيانًا على عَجَل وبخط اليد جاء فيه: «يعلن المثقفون والأدباء والفنانون المعتصمون بمكتب وزير الثقافة رفضهم للوزير الذى فرضته الفاشية الدينية الحاكمة، والذى بدأ فعلاً فى خطة تجريف الثقافة الوطنية، ويؤكدون أنهم لن يقبلوا بوجود وزير لا يلبى طموح المثقفين وتطلعاتهم للرقى بالثقافة اللائقة بالثورة العظيمة التى بدأت موجتها الأولى يوم 25 يناير 2011، حتى تحقق أهدافها وفى مقدمتها بناء الدولة الوطنية».
الغريب أن هذا الجمع من كبار المثقفين واجهه الوزير الإخوانى بتصريح غريب، حين قال: «المعتصمون بالوزارة لا يمثلون مثقفى مصر»، مع أن الاعتصام ضم كبار المثقفين الذين مثلوا الهوية الثقافية المصرية فى العقود الأخيرة، فإضافة إلى من سبق أن ذكرنا اسمه تواجد أيضًا، الأديب الراحل جمال الغيطانى، بجانب الفنان الكبير المخرج جلال الشرقاوى، والفنانة القديرة سهير المرشدى، والفنانة القديرة رجاء الجداوى.
ومع مرور الوقت، كانت أعداد المثقفين تتزايد أمام بوابة وزارة الثقافة، وحينما علم الوزير الإخوانى بما حدث، لم يعد إلى مكتبه حتى للقاء المثقفين بداخلها؛ بل أعلن عن احتلالها، ليرد عليه بهاء طاهر بأن اعتصام المثقفين لا يعبر عن أشخاص بأعينهم أو جهة أو فصيل أو حزب، لكنه يعبر عن المثقفين كافة، الذين يرون أن مصر تعانى من سيطرة فاشية، تحاول صبغ الثقافة المصرية بصبغة يقال إنها إسلامية، فى حين أن الثقافة الإسلامية بعيدة كل البعد عنهم؛ لأنها غنية بمعالمها وتفاصيلها؛ خصوصًا أن الشعب المصرى متدين بالفطرة، وأن المثقفين لم يمنعوا أحدًا من دخول الثقافة بمن فيهم الوزير الإخوانى نفسه.
وعلى مدار 45 يومًا استمر اعتصام المثقفين داخل وخارج وزارة الثقافة، وبدلاً من المطالبة بإقالة وزير الثقافة الإخوانى من منصبه، طالبوا بالإطاحة بحكم جماعة الإخوان الإهاربية، وحينها شهد الاعتصام انضمام العديد من المواطنين المصريين الخائفين على هوية وطنهم، والرافضين لحكم الإخوان، وظل الاعتصام مستمرًا حتى 30 يونيو 2013، ولم يصبح الاعتصام لإقالة وزير ثقافة الإخوان؛ بل تحوَّل لثورة ضد حكم الإخوان فى مصر، استطاع المثقفون خلالها إنارة طريق الحق أمام الشعب المصرى لوقفتهم لأول مرة يدًا واحدة لمحاربة التطرف والإرهاب.
هكذا لم يكن اعتصام المثقفين استعراضًا فارغًا من المضمون أو الأثر، ولا عملاً نخبويًا معزولاً عن حاضنته الشعبية. لقد كان أقرب إلى نبوءة «زرقاء اليمامة» فى استشراف ما لم يره قومها مبكرًا، وجرس الإنذار الذى دق فوق رؤوس الناس فأيقظ النائم منهم وشجّع الخائف، فانتفض الجميع معًا معتصمين بهويتهم الصافية، ومدافعين عن حاضرهم ومستقبلهم، ومتصدين لمشروع ظلامى استهدفهم فى صميم وعيهم وثابتهم الوطنى والحضارى. كان الإخوان خطرًا وجوديًّا لم يُفصح عن نفسه أول الأمر؛ إنما بأثر الطمع تحقق انكشافه سريعًا، وبالمثل كان اعتصام المبدعين فى مقر وزارة الثقافة مقدمة لسياق مدنى لا يقبل الرجعية والتطرف، ولا يُسلِّم لخصوم الهوية المصرية وكارهيها، وكان له الفضل مع غيره من الفعاليات الشعبية والرسمية فى إفشال أحد أسوأ المخططات الكريهة التى هددت البلد، وفى وضع النهاية الملائمة لتنظيم إجرامى كان منذ نشأته خصيمًا للمصريين، وعونًا لخصومهم، ولم يُضبط متلبسًا قطّ بالوطنية ولا نزاهة القول والفعل.
اللافت أن الاعتصام الذى بدا محدودًا وقتها كان يكسب أرضية جديدة كل يوم.. شركاء جدد ينضمون إما زيارة عابرة لعدة ساعات أو إقامة كاملة.. فنانون كبار ورموز سياسية ومثقفون باتت قبلتهم يوميًا وزارة الثقافة فى الزمالك.. وتطورت الأحداث بسرعة شديدة وعلا سقف المَطالب، فبعد أن كان رحيل الوزير المتأخون هو الهدف.. كبر الأمل وتوسع ليطال تخليص الشعب كله من فاشية تتستر باسم الدين وتريد أن تأخون كل المواقع والمناصب لتحقيق السيطرة الكاملة.
بدأ الاستعداد للاعتصام بتحديد مهام كل المشاركين وبتحديد الأماكن المسموح باستخدامها فى الوزارة وبناءً عليه تم نقل كل القطع المهمة من الأثاث والمقتنيات والسجاد للدور العلوى الذى به مكتب الوزير ومنع الصعود إليه، واقتصر الاعتصام فى الدور الأول فقط وكانت الفعاليات المصاحبة للاعتصام من فقرات فنية تقام فى الشارع أمام مبنى الوزارة؛ حيث كان يقام يوميًا مسرح.. وانتقلت أنشطة دار الأوبرا المصرية إلى شارع شجرة الدر فى حضور جمهور كبير من فئات مختلفة من الشعب. ومن دون الملابس الرسمية. واستمعوا لعزف فنانى الأوبرا الكبار د. إيناس عبدالدايم والفنانة منال محيى الدين ونسمة عبدالعزيز ولغناء مروة وغناء وعزف أطفال الأوبرا وغناء الفرق الغنائية، وكانت من الليالى المتميزة ليلة غناء على الحجار وكانت يوم 29 ووعد فيها أنه سيأتى للغناء مرة أخرى بعد رحيل مرسى، وفعلاً وعد وصدق.
فرقة باليه القاهرة أيضًا نزلت عن علياء خشبة المسرح، إلى الأرض الطيبة، ورقصوا «زوربا» فى الشارع.. وكانت مفارقة غريبة الناس نزلت ترقص معهم من أجل الحرية والانتصار على البؤس.. وهو المفهوم الحقيقى للرقصة الشهيرة...والتى تعد أهم فلكلور يونانى، ومن أهم العلامات الفنية للرقص والغناء فى العالم كله.
وتعتمد الرقصة على موسيقى زوربا التى أبدعها المؤلف الموسيقى اليونانى العالمى ميكيس ثيوذوراكيس لكى تكون الموسيقى المستخدمة فى فيلم «زوربا اليونانى» عام 1960، والمبنى على الرواية التى تحمل اسمه التى كتبها نيكوس كازانتزاكيس، وهو من أبرز الأدباء اليونانيين فى تاريخنا المعاصر؛ بل هو من أبرز الأدباء العالميين؛ حيث يعتبر شاعرًا ذا إلهام ملحمى وروح شمولية، إضافة إلى كونه روائيًا متميزًا جدًا وصاحب دراسات فلسفية مهمة.
وتعد رواية «زوربا اليونانى» من أشهر أعمال كازانتزاكيس على الإطلاق...وتعتمد «تجاوز» الأوضاع السيئة كى تفتح للحياة من حولنا آفاقًا جديدة.
المشهد الأكثر روعة وتأثيرًا كان صباح 30 يونيو، امتلأت الوزارة بأعداد كبيرة من الفنانين والمثقفين ولم يغب فنان عن المشهد من كل الأعمار.. وبما أن المسيرة خرجت من شارع شجرة الدر؛ حيث مقر الوزراة بالزمالك.. حملت كل سيدة مشاركة.. «جوز» من القباقيب مكتوب عليها (ارحل).. وتقدمت المسيرة عربة بميكرفون عليها الفنانون سامح الصريطى وأحمد عبدالعزيز وخالد صالح ومجموعة من شباب الأوبرا وهم يتبادلون الهتاف والأغانى مع صوت طرقعة القباقيب.. دارت المسيرة فى شوارع الزمالك وانضمت إليها مسيرة «نادى الجزيرة ولحقت بها مسيرة الكيت كات» لترسم صورة رائعة لتلاحم كل الطبقات فى مصر.
وصلت المسيرة لتمثال سعد زغلول أمام دار الأوبرا ولم تستطع أن تتحرك مترًا واحدًا.. توقفت عن السير.. فقد امتلأت شوارع القاهرة والميادين بالملايين من الشعب المصرى يطالبون برحيل مرسى والإخوان.. ورحلت الجماعة وانتصرت إرادة الشعب.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" روز اليوسف "
أخبار متعلقة :