فى التاريخ.. هناك لحظات لا تشبه غيرها ولا تتكرر. لحظات تتجاوز جدل الخلاف حول تعريفها كونها ثورة أم انقلابًا، وديمقراطية أم استبدادًا، وهنا يكون السؤال الطبيعى المطروح: بقاء الدولة أهم أم دخولها فى نفق أزمة الفوضى الخلاقة؟!
بعد أحداث 25 يناير 2011، كانت مصر على سطح صفيح ساخن. وكان العالم مشغولًا بالأوصاف الجذابة على غرار مفردات الربيع العربى وأخواته. ولكن كان للقاهرة انطباع آخر بوصفه الربيع العربى الأسود، وهو ما جعلها تتخذ قرارًا وجوديًا بإعلان ثورة 30 يونيو 2013 والانسحاب من مشروع تفكيك الشرق الأوسط، ومواجهة التداعيات.. بالاختلاف مع الحلفاء، والانعزال عن الشرعية الدولية الافتراضية.
وبعد كل تلك السنوات، ومع ما وصلنا إليه من اندلاع حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل، تبدو أن تلك اللحظة المصيرية المصرية فى 30 يونيو.. أنها كانت بمثابة جرس إنذار مبكر لم يلتفت له أحد أو ينتبه، إلا بعد أن أصبحت الخريطة العربية دون حدود، بل ومسرحًا للخراب والدمار.
اختار الشعب المصرى الحفاظ على وحدة وطنه، بينما لهث آخرون خلف وهم التغيير الممول من الخارج والمدفوع فى إطار تحقيق مصالح الدول الكبرى.
مقاومة التفكيك
فى لحظة ما أطلقت عليه «الربيع العربى الأسود»، وما تلاه من انهيار عام لعدد من دول المنطقة.. تشكلت فى القاهرة ملامح صورة مغايرة. اختارت مصر الثبات والمقاومة، ورفضت إعادة هندسة نظامها السياسى للحكم مع جماعة الإخوان الإرهابية.. بينما حرصت بعض الدول على إعادة هندسة بلادها من بوابة الربيع العربى المفترض.
استطاع الشعب المصرى من خلال ثورة 30 يونيو أن يعيد تعريف معنى الثورة بشكلها التقليدى المعتاد حسب المفاهيم السياسية.. فلم تعد الثورة تمردًا ضد السلطة فقط، بل جاوزت التمرد لترسخ رفض استلاب الإرادة الشعبية والوطنية من الخارج، وسواء كان هذا الاستلاب عن طريق الانتخابات بالسيطرة على صناديق الاقتراع بشكل موجه من خلال التمويلات المشبوهة التى توجه الناخبين، أو من خلال سيطرة جماعات وتنظيمات ذات مرجعيات غير وطنية.. لها ولاءات دولية. ولذا كان من الطبيعى حينذاك أن تستهدف الدعاية الغربية الدولة المصرية، واتهام ثورة 30 يونيو بأنها انقلاب ضد الديمقراطية حسب وصفها الغربى، وهو ما ثبت عدم صحته الآن. وما زال السؤال دون إجابة: هل كانت الدولة المصرية ستظل قائمة لو ظل حكم جماعة الإخوان المسلمين سنة أخرى؟!
على الحافة.. تحالفات وتوازنات
على الرغم من أن مصر عاشت بعد ثورة 30 يونيو.. أشكالا متعددة من العزلة الإقليمية والدولية، ووصل الأمر إلى تهديد وقف المعونات، والمطالبة بتجميد عضويتها فى العديد من الهيئات والمجالس الأممية، ووقف صفقات السلاح. فإن القاهرة قد صمدت، واستطاعت فتح قنوات اتصال دولية أخرى.. مع دول فى أوروبا وآسيا.. مكنتها من بناء تحالفات إقليمية ودولية جديدة، ومع تنوع مصادر التسليح بشكل متوازن.
الملاحظ فيما سبق، هو أن هناك تحولًا كبيرًا قد حدث فى صيغة العلاقات المصرية العربية من جهة، والمصرية العالمية من جهة أخرى.. من دولة تتلقى التمويل مقابل الانحياز والولاء إلى دولة استعادت إرادتها الوطنية، واستطاعت بناء قوتها الذاتية. ولم تعد مصر تابعة فى القرار، ولا متبنية للنموذج التركى أو الإيرانى أو الخليجى. بل واختارت ما يشبه الحياد الصارم دون انحياز للغرب، ودون خضوع للشرق، بل بتشابك وتقاطع المصالح مع الجميع، ومع الحفاظ على الاستقلالية والتوازن.
فى ميزان الفوضى
حينما ننظر لخريطة المنطقة العربية الآن، لن يحتاج الأمر لأكثر من ثوانٍ قليلة لنكتشف كم الخراب والفوضى التى أصابتها، وهو المصير الذى تجنيه مصر رغم كل الضغوط ورفض الخضوع لأى ابتزاز سياسى. وعلى سبيل المثال:
- واجهت فى غزة.. خط النار، ولم تستقطب إلى الحرب، وحافظت على مكانتها كأهم وسيط للسلام.
- رفضت التدخلات العسكرية فى ليبيا.. رغم التهديدات الحدودية.
- حافظت على مساحات مترابطة ومتوازنة رغم الصراع الدامى لطرفى النزاع فى السودان.
- بقاؤها خارج الاستقطاب الطائفى (السنى والشيعى)، وعدم التورط فى الحروب بالوكالة مع اليمن.
لم تكن المواقف السابقة مجرد براعة دبلوماسية فحسب، بل هى أحد ثوابت ثورة 30 يونيو وركائزها التى استطاعت استشراف ما سيحدث من تحول المنطقة إلى ساحة للاشتباك الطائفى العربى والإقليمى. وأن مسار الحل الوحيد هو بناء دولة مصرية قوية.. تستطيع الصمود فى هذه الظرف الدولى دون أى مغامرات دولية أو تورط عسكرى هنا أو هناك.
لم يسمعها أحد
لنتذكر أن مصر قد حذرت كثيرًا منذ ثورة 30 يونيو من خطر تفكيك الدولة الوطنية فى المنطقة العربية. وهو ما لم ينتبه له أحد سوى بصيغة الرفض والشجب والإدانة حسب قرارات جامعة الدول العربية.. دون أى أثر يذكر.
نبهت مصر إلى مبدأ مهم، وهو أن «الديمقراطية ليست صناديق فقط»، وهو ما سخرت منه دول ومنظمات وهيئات.. تبنت زورًا وبهتانًا الترويج لحقوق الإنسان، والتى ثبت صحة موقفها بعد صمت العالم مما حدث من إبادة للشعب الفلسطينى بعد 7 أكتوبر 2023. وبعد أن ثبت أن جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية بتفريعاتها وأشكالها فى المنطقة ليست مجرد جماعة محلية، بل هى جماعة تعبر عن مشروع عابر للحدود الوطنية. وهو نتيجة خبرة تاريخية طويلة مع محاولات مستمرة من الاختراق والفوضى.
سؤال لا مفر منه
لا شك أنه لا يوجد فعل سياسى دون مشاكل أو سلبيات أو اختلاف فى الرؤى وصناعة القرارات واتخاذها. ولكن التحدى الحقيقى فيما استهدفته الدولة المصرية هو مدى قدرة مصر على خوض تجربة ديمقراطية سليمة فى ظل ميراث من المناخ الطائفى والدينى المسموم فى المنطقة، ومن قبله فى ظل عدم وجود بناء حقيقى للدولة وترهل لوجستياتها وحالة الفراغ التنموى الذى يواجهه المجتمع المصرى.
ما زلت أرى أن ثورة 30 يونيو ليست نهاية مسار ثورة شعب، ولكنها بداية الطريق لتثبيت أركان الدولة فى سبيل إعادة بناء الحياة السياسية على أسس وطنية، وليست دينية أو تنفيذًا لأجندة خارجية.
مصير مختلف
الحقيقة أن ثورة 30 يونيو قد جنبت مصر مصير ما حدث مع بعض الدول الجوار على غرار: سوريا والعراق. ولم تنجح مصر فى ذلك بسبب البترول أو الجغرافيا أو... بل نجحت بسبب استشرافها المبكر للحفاظ على الدولة وانقاذها بأى ثمن مما يحاك لها من مخططات وأجندات.
هذا الاستشراف الذى عبرت عنه الإرادة الشعبية المصرية بمساندة مثلث الوطنية التاريخى (الكنيسة المصرية والأزهر الشريف والقوات المسلحة المصرية).
والآن فى هذا التوقيت الحرج الذى تمر به المنطقة والعالم كلة فى شهر يونيو 2025.. تبدو القاهرة كأنها الناجى الوحيد من سيناريو إلغاء الحدود وإعادة رسم ملامح دول المنطقة بمخططات التقسيم والالحاق والتجزئة.
نقطة ومن أول السطر
لم تكن ثورة 30 يونيو ثورة عاطفية أو انتقامية، وبكل تأكيد لم تكن مثالية.. لكن الأكيد أنها ثورة وطنية بامتياز. ثورة عقلانية بالكامل، تعرف ما ترفضه.. أكثر ما كانت تعرف ما تريده.. سوى بالتأكيد على الحفاظ على الدولة المصرية.
رفضت ثورة 30 يونيو الشعبية النموذج الإيرانى، كما لم تقبل النموذج التركى.. مثلما تجنبت نموذج العراق ما بعد صدام. وإذا كانت لم تقدم نموذجًا سياسيًا مثاليًا عند بعضهم، فإنها قدمت درسًا.. تم تداركه بعد 12 سنة من ثورة 30 يونيو بأن بقاء الدولة الوطنية والحفاظ عليها من الانقسام والاقتتال والحرب الأهلية هو فى حد ذاته إنجازًا وطنيًا.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" روز اليوسف "
أخبار متعلقة :