قبل أشهر قليلة، ذهب محللون كُثُر غربيون وعرب إلى أن الخلافات بين الرئيس الأمريكى ورئيس الوزراء الإسرائيلى حول التحرك العسكرى ضد إيران سيؤدى إلى استبعاد ذلك الخيار على المدى القريب، رغم ارتفاع حدة التوتر وتعثَّر المفاوضات مع طهران حول برنامجها النووى، خاصة مع طول أمد الحرب الإسرائيلية على غزة وعدم قدرتها على حسمها بسحق حماس وترهيب الشعب الفلسطينى وتهجيره قسرًا وتصفية القضية الفلسطينية نهائيًا، وهو ما أدى إلى أزمات اقتصادية وانقسام سياسى كبير فى تل أبيب.
وبصرف النظر عن أن مصير غزة ما زال قيد ما يمكن أن يسفر عنه المستقبل من اتجاهات تطور الصراع، إلا أن المشهد الكارثى الجديد الذى تعيشه المنطقة الآن أثبت أن الأهداف الاستراتيجية الموحدة للولايات المتحدة وإسرائيل فرضت نفسها على ما بدا للبعض أنه خلافات تكتيكية بينهما، وهكذا تحولت التهديدات الأمريكية الإسرائيلية من حرب سياسية – اقتصادية طالت لسنوات، إلى حرب عسكرية مباشرة ومكشوفة توسع جبهات المواجهة، كانت قد بدأت عملياتها التمهيدية بضرب أذرع إيران ووكلائها وحلفائها الإقليميين (حماس وحزب الله وإسقاط النظام السورى) فى تسارع لم يكن خافيًا ولم يكن له - فى الوقت نفسه - أى رد فعل يمكن أن يردع إسرائيل، إلى جانب عمليات الاغتيال النوعية المؤثرة التى أثبتت قدرة إسرائيل/ أمريكا الاستخباراتية على النفاذ والاختراق.
وهكذا أيضًا، نشهد الآن ما يمكن أن نعتبره الفصل قبل الأخير نحو تحقيق الهدف الاستراتيجى الأشمل للولايات المتحدة وإسرائيل فى المنطقة وهو ما اصطُلح على تسميته بـ«الشرق الأوسط الجديد» حيث:
- «تصفير الصراع» بتصفية القضية الفلسطينية.. والقضاء على (أو تجميد) البرنامج النووى الإيرانى بإسقاط النظام أو تركيعه أو تغييره هيكليًا.. وفرض و«تصنيع» علاقات «طبيعية» بين الأنظمة العربية وإسرائيل.
- إنهاء دور تنظيمات الإسلام السياسى الإرهابية مؤقتًا لحين إعادة استخدامها لاحقًا بقواعد سيطرة جديدة داخل دول أو مناطق عربية (قد تكون أشبه بما حدث فى سوريا أو فى إطار تقسيم بعض الدول).
- توسيع نطاقات الاعتمادية/ التبعية للولايات المتحدة بين الأنظمة العربية (سياسيًا أو اقتصاديًا أو عسكريًا) كقوة عالمية وحيدة مهيمنة.
- إفراغ النظام العربى من مشتركاته الاستراتيجية التاريخية وهدم نظرية أمنه القومى الطبيعية بتغيير مفهوم العدو من ناحية، وبالدفع فى اتجاه صنع مراكز قوة وتأثير متعددة طامحة للقيادة بما يضعف فى النهاية القوى الإقليمية العربية التقليدية.
- تدشين إسرائيل كقوة إقليمية وحيدة مهيمنة، معبرة عن ومعادلة إقليميًا للولايات المتحدة فى النظام الدولى.
والحقيقة أننا لا نحتاج إلى استقراء عميق للتاريخ القريب حتى نتأكد أن مخطط «الشرق الأوسط الجديد» لم يتوقف ولم يتم التراجع عنه فى أى مرحلة من المراحل.. وبصرف النظر عما يمكن اعتباره نقطة بداية الصراع بشكله المستحدث فى المنطقة مع انهيار الإمبراطورية العثمانية وصدور وعد بلفور وما تبعه من زرع إسرائيل وقرار التقسيم ثم إعلان دولتها فى 15 مايو 1948، وبصرف النظر أيضًا عن إرهاصات كثيرة يعيدها بعض المؤرخين السياسيين إلى القرن التاسع عشر (وماقبله أحيانًا).. إلا أنه على الأقل يمكننا اعتبار أولى خطوات التحرك المؤثرة فى هذا الاتجاه هى عندما استخدم «شيمون بيريز» هذا المصطلح عام 1991 فى أعقاب مؤتمر مدريد ووضعه فى مؤلف يحمل العنوان نفسه يدعو لاختراق العالم العربى.. وتدريجيًّا تطور هذا المخطط وتحول إلى رؤية سياسية استراتيجية تبنتها وقادتها الولايات المتحدة ونفذت أولى خطواتها المؤثرة فى حرب الخليج الثانية بغزو العراق وإسقاط نظامه وتفكيك جيشه، قبل أن يتم الإعلان الرسمى عن تدشينه كهدف استراتيجى على لسان «كونداليزا رايس» عام 2006 فى كلمة لها بـ«دبى» تحت غطاء تمكين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية ودعم حقوق الإنسان فى المنطقة، مع إطلاق نظرية «الفوضى الخلاقة» التى لم يكن بعيدًا عنها تخليق وإطلاق يد التنظيمات الإرهابية ثم تفجير ودعم واستغلال «ثورات الربيع العربى» 2011 مع الوضع فى الاعتبار اختلاف الدوافع والأسباب الداخلية والمآلات فى كل حالة عن غيرها.
لكن الثابت أن المخطط استمر وحقق نتائج مرحلية غيرت من تركيبة المنطقة وإن لم يصل بعد إلى أهدافه النهائية، والثابت أيضًا أن الأوضاع السياسية والصراعات الإقليمية والبينية والداخلية للدول العربية ساعدته بقوة، ومخطئ من يتصور أن الولايات المتحدة (عبر إسرائيل أو بالتدخل المباشر) لن تمضى فيه حتى النهاية فقد تم اعتماده كعقيدة بعد حدوث (أو إحداث) صدمة 11 سبتمبر 2001 إلى جانب استراتيجيتها الثابتة فى ضمان النفط وأمن إسرائيل، فضلًا عن اتساقه مع الروح التوسعية للفكر السياسى الأمريكى.
يقولون إنك يمكن أن تحدد متى تبدأ الحرب لكنك لا تستطيع أن تعرف متى تنتهى وكيف.. لذا نستطيع اعتبار ما يحدث هو الفصل قبل الأخير، ومع هذا ورغم كل شىء فمن يدرى ماذا يحمل الفصل الأخير؟ وكيف يكون مشهد النهاية؟.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" روز اليوسف "
أخبار متعلقة :