بالبلدي | BELBALADY

: حكاية أسير تامر الريماوى: الأسرى هم حراس الوعى وجنود الذاكرة "الحلقة 18"

كتب

محمد الجزار

لكل أسير بطولة فى الصمود والعزيمة، والأسير المحرر تامر الريماوى قضى نصف عمره فى سجون الاحتلال الإسرائيلى، متنقلًا بين الزنازين وظلمات التحقيق، محرومًا من حقوقه الإنسانية، واجه القمع والعزل والإهمال الطبى، لكنه تمسك بالكرامة وخرج من السجن مرفوع الرأس، مؤمنًا بعدالة قضيته، وعاقدًا العزم على مواصلة النضال.. ومتحدثًا عن محطات الألم والصبر، والتجارب التى شكّلت وعيه، لتبقى شهادته مرآة حية لمعاناة الأسرى، وصوتًا لا ينكسر فى وجه الظلم.

 فى البداية، كيف كانت طفولتك فى ظل الاحتلال؟

- وُلدتُ فى مدينة رام الله، ونشأت فى بلدة بيت ريما، حيث لم تكن الطفولة كما ينبغى لأى طفل أن يعيشها، كبرت فى ظلّ الاحتلال، تحت وطأة الحواجز، والمداهمات، والخوف المزروع فى تفاصيل الحياة، فى الثالثة عشرة من عمرى فقدتُ والدى، وكان لفقده وقع عظيم على قلبى، وعشتُ يتمًا مبكرًا، فكانت أمى الحاضنة والصدر سَندًا وأمانًا حتى فارقت الحياة فى 20 فبراير 2020 وأنا لا أزال أسيرًا خلف القضبان، الاحتلال لم يسرق فقط طفولتى، بل حاول أن يطفئ نورى لكنه فشل وفى ظل هذا القهر تعلّمتُ معنى الكرامة والتمسك بالحق.

 متى بدأت الانضمام إلى المقاومة؟

- مع اندلاع انتفاضة الأقصى، كنت على يقين أن الصمت خيانة، وأننى إن لم أنضم، أكون قد خذلت دمى وبلدى، وقد انخرطت فى صفوف كتائب شهداء الأقصى، وكان انتمائى للمقاومة انتماء فطريًا، نابعًا من وجع الشارع، ومن صور الشهداء، ومن نظرات الأمهات اللواتى ودّعن أبناءهن بصبر العظماء. لم أتردّد لحظة، فقد شعرت أن الأرض تنادينى، والوطن يختبر رجولتى.

ماذا تمثل لك المرأة الفلسطينية؟

- المرأة الفلسطينية هى مدرسة الصبر والنضال، الأم التى تزرع الأمل وتودّع أبناءها وعيونها تغلى بالدموع، الأخت التى تحفظ الذاكرة، الحبيبة التى تنتظر ولا تضعف، الزوجة التى تواصل طريق الحياة رغم الألم، والابنة التى تكبر فى ظل الغياب وتحمل الإرث والأمل، كل واحدة منهن تُجسّد فلسطين، وهنّ أعمدة البيت والمقاومة معًا.

متى تم اعتقالك؟ وكيف قضيت 22 عامًا فى الأسر؟

- تم اعتقالى بتاريخ 28 مايو 2003 فى مدينة رام الله. اقتادونى من بين أهلى وأحلامى، لتبدأ مرحلة طويلة من الأسر استمرت 22 عامًا. تلك السنوات لم تكن مجرد أرقام، بل محطات من الصراع مع القهر، من تحدى الجلاد، ومن بناء الذات. لم أكن أسيرًا مستسلِمًا، بل روحًا تقاوم، تقرأ، تكتب، وتخطط للغد.

 ما هى أبرز التحديات التى واجهتها داخل السجون؟

- السجن هو عالم قاسٍ، ملىء بالمواجع. من العزل الانفرادى، إلى الإهمال الطبى المتعمّد، مرورًا بالتفتيش الليلى واقتحامات الغرف، وحرماننا من الزيارة والاحتضان. كل ذلك كان سلاحًا نفسيًا يستخدمه الاحتلال للنيل منّا، لكننا كنا نواجهه بالصبر والوعى والتنظيم. خضنا معارك إضراب عن الطعام، وكتبنا رسائل التحدى، ورفضنا الخنوع مهما اشتدت العتمة.

 كيف كان أثر الاعتقال على علاقتك بعائلتك، خاصة الوالدين؟

- الغياب مؤلم، ووجع العائلة لا يُقدّر بثمن. حُرمت من نظرات أمى فى آخر أيامها، ولم أستطع وداعها، وهذا أكثر ما يُدمى قلبى. كانت أمى تتنفسنى من خلف الجدران، ترسل لى الدعاء والدمع مع كل صباح، وترحل وأنا لا أزال أحمل صورتها تحت وسادتى. أما والدى، فقد فقدته صغيرًا، وحملته فى قلبى طيلة المسيرة. الأسر يفصلك جسديًا عن أحبابك، لكنه لا يستطيع أن يقطع الحب أو الارتباط الروحى.

هل استفدت من تجربة التعليم فى الأسر؟

- نعم، التعليم داخل السجن كان من أبرز أشكال المقاومة بالنسبة لى. تابعتُ دراستى، حصلت على الشهادة الجامعية الأولى من جامعة القدس المفتوحة فى تخصص التاريخ، ثم حصلت على اللقب الجامعى الثانى فى العلوم السياسية من جامعة فلسطين. لم يكن التحصيل الأكاديمى سهلًا، لكنه كان ضروريًا ليبقى العقل حيًّا، والقضية حاضرة فى الفكر كما فى القلب.

 من أبرز القيادات الفلسطينية التى قابلتها فى الأسر؟

- كان لى الشرف أن ألتقى برجالٍ لهم بصماتهم فى تاريخ النضال الفلسطينى، من مختلف الانتماءات السياسية. التقيت بالأخ المناضل مروان البرغوثى، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، كما التقيت بالشهيد القائد يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسى لحركة حماس - الذى شكّل حضورًا وطنيًا داخل المعتقل، وكذلك الرفيق أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذى كان قامة فكرية ونضالية. هؤلاء القادة، رغم اختلاف توجهاتهم، كانوا يجتمعون على حب فلسطين.

 هل تتذكر لحظة الإفراج عنك؟ كيف عشتها؟

- وكيف أنساها؟ تلك اللحظة لا تُمحى من الذاكرة، ولا تُقارن بأى لحظة أخرى. كانت ولادة من جديد. لا أزال أذكر صوت البوابة وهى تُفتح، والسماء التى بدت أوسع من كل السنوات الماضية. كنت أتنفس الحرية لأول مرة بعد عقدين، وقلبى يرتجف كأننى طفل خرج من رحم الظلمة إلى نور الله.

 كيف قضيت وقتك داخل السجن؟ وهل واصلت الكتابة؟

- قضيت وقتى بين التعليم، والمطالعة، والتأمل، والكتابة. لم أسمح للوقت أن يمرّ هباء. كنت أقرأ الكتب الفكرية والتاريخية، أتابع الأحداث، وأحاول أن أدوّن ما أعيشه، أحيانًا بالشعر وأحيانًا بالتأملات. تلك المساحة الصغيرة كانت عالمًا واسعًا نحاول أن نصنع فيه حياة.

ما دور الأسرى فى الحفاظ على الوعى الوطنى داخل المعتقلات؟

- الأسرى هم حراس الوعى، وجنود الذاكرة. كنا نُقيم جلسات ثقافية، ننشر الفكر الوطنى، نناقش القضايا الكبرى، ونُحافظ على وحدتنا رغم اختلاف الفصائل. داخل السجن تُصاغ الرواية الفلسطينية على نار التجربة، وهناك يُربّى الوعى ليخرج الأسير حاملًا مشروعًا، لا مجرد ذكرى.

 ما رسالتك لأسرى الحرية الذين مازالوا خلف القضبان؟

- إخوانى فى الزنازين، أنتم فى قلوبنا، فى نبضنا، وفى كل نفس نأخذه فى الخارج. لستم وحدكم، فكل لحظة نعيشها فى النور، نحمل فيها وجعكم، ونستشعر غيابكم. لا تنكسروا، ولا تيأسوا، فأنتم رموز الصمود، وعناوين الكرامة. سنبقى أوفياء لعهدكم، نحمل رسالتكم، ونمضى بأسمائكم حتى يزول القيد عن آخر أسير فلسطينى.

كيف ترى دور الإعلام والمجتمع فى دعم قضية الأسرى؟

- الإعلام له سلاح كبير، إن تم استخدامه جيدًا، يستطيع أن يحوّل الأسرى إلى أيقونات حرية حقيقية. المطلوب تسليط الضوء على المعاناة اليومية، على قصص الأسرى وعائلاتهم، على انتصاراتهم الصغيرة التى لا تصل للعالم. المجتمع بدوره يجب أن يحفظ الذاكرة، ويُعلّم الأجيال أن خلف الجدران أبطالًا لا تُكسر.

 كيف وجدت فلسطين بعد سنوات الأسر؟  وما أبرز التغييرات التى لاحظتها؟

- لم أخرج من الأسر إلى وطنى، بل إلى منفى خارج الأرض التى ناضلتُ لأجلها. لم تطأ قدماى تراب فلسطين منذ لحظة الإفراج، وهذا بحد ذاته وجع لا يشبه أى وجع. الإبعاد عن الوطن جرح مفتوح، ونفى قسرى مؤلم، أشبه بحكمٍ آخر يُضاف إلى سنوات الأسر. ورغم أننى بعيدٌ عن بلدى، إلا أن قلبى ما زال هناك، فى بيت ريما، فى الأزقة التى كبرتُ فيها، فى القرى التى اشتقتُ لأذان فجرها. أتابع ما يحدث، وأشعر بغصة كلما سمعت عن تغيّر الوجوه أو اختلاف المزاج العام. فلسطين التى أحببتها لم تتغير فى قلبى، لكنها تنزف، تنتظر من يضمّد جراحها، ومن يعيد لها وحدتها الممزقة.

ما خططك المستقبلية بعد الإفراج؟

- أحمل همّ وطنى أينما ذهبت. سأواصل العمل من أجل قضيتى، وسأكون صوتًا للأسرى، وظلًا لرفاقى فى السجون. سأُكرّس نفسى لخدمة وطنى، بالحرف والموقف والكلمة.

 أخيرًا كيف ترى الموقف المصرى والعربى تجاه فلسطين؟

- أما عن الموقف المصرى، فأنا أحييه وأُقدّر دوره التاريخى والدائم فى دعم القضية الفلسطينية فى كل المراحل، وخاصة فى ملف الأسرى والوساطات الإنسانية. مصر لم تتخلّ، وكانت دائمًا الحاضنة وقت المحن. ولكن للأسف، كثير من المواقف العربية الأخرى ما تزال خجولة، بل وصامتة أحيانًا، فى وقت نحتاج فيه إلى وحدة حقيقية، وصوت عربى صارخ لا يخاف. فلسطين لا تحتاج فقط الشجب، بل المواقف الجريئة، والمساندة الفعلية.

إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"

المصدر :" روز اليوسف "

أخبار متعلقة :