منذ سقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع إلى سُدة الحكم في سوريا، بدت جماعة الإخوان المسلمين وكأنها وجدت فرصة تاريخية لاستعادة موطئ قدم طالما حلمت به داخل الدولة السورية. استقبلت الجماعة لحظة التغيير بحفاوة ظاهرية، وأعلنت ترحيبها بالسلطة الجديدة، وسعت منذ اللحظة الأولى إلى فرض خطابها وتوجهاتها على الساحة السياسية والدينية، حتى إنها حاولت استغلال الرمزية الكبيرة للمسجد الأموي لتوجيه رسائل سياسية عبر بعض رموزها الذين لم يترددوا في مهاجمة الدول العربية من ساحات هذا الجامع، وكأنهم يعتقدون أن لحظة الفوضى المؤقتة يمكن أن تتحول إلى استيلاء فكري دائم. لكن ما لم تدركه جماعة الإخوان هو أن الإدارة السورية الجديدة، بقيادة أحمد الشرع، لم تكن في وارد السماح لأي طرف -مهما كانت نواياه أو ادعاءاته- باختطاف القرار الوطني أو توجيه مسار الدولة وفق أجندات خارجية أو فكرية ضيقة. فسرعان ما قامت السلطة في دمشق باتخاذ إجراءات حازمة أدّت إلى استبعاد تلك الشخصيات التي حاولت فرض وصايتها، وأعلنت بشكل واضح أن سوريا الجديدة ليست ملعباً لأحلام الجماعات العقائدية، ولا بوابة خلفية لإعادة إنتاج تجارب فشلت في كل مكان دخلته، من مصر إلى السودان مروراً بتونس وغيرها. الإدارة الحالية اختارت بوعي وهدوء أن تكون سوريا جزءاً من الفضاء العربي، منفتحةً على جيرانها، راغبةً في بناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لا على التهديد الأيديولوجي أو التورط في صراعات عقيمة. هذا الخيار الواضح، المبني على «صفر مشاكل» مع المحيط العربي، لم يرق لجماعة الإخوان المسلمين التي اكتشفت فجأة أن مشروعها لم يعد مرحّباً به، لا من قبل السلطة الجديدة ولا من قبل الشارع السوري، ولا من قبل العواصم العربية التي سئمت من التجارب العبثية للإسلام السياسي. ومع تزايد المؤشرات على تمايز موقف دمشق عن طهران، خصوصاً في ظل الحرب الإسرائيلية الأخيرة على إيران، وجدت جماعة الإخوان نفسها في مأزق مزدوج: فهي من جهة غير قادرة على التماهي مع السلطة السورية، ومن جهة أخرى وجدت نفسها متموضعة في خندق إيران. فبدلاً من قراءة المشهد بتعقُّل ومسؤولية، اختارت الجماعة التصعيد، وبدأت تهاجم الرئيس الشرع بشكل مباشر أو غير مباشر، وتشكك في نواياه وخياراته، رغم أنها كانت قد أظهرت الدعم له في بداية وصوله. هذا الانقلاب في الخطاب ليس إلا تعبيراً عن خيبة أمل دفينة، وعن قناعة متزايدة داخل الجماعة بأن مشروعها بات مرفوضاً بالكامل. إن المحاولات الأخيرة لجماعة الإخوان لا تنبع من حرص على الديمقراطية أو استقلال القرار السوري، بل من رغبة يائسة في إعادة تدوير نفسها في مشهد لم يعد يقبلها. فالسوريون، الذين دفعوا ثمناً باهظاً لحروب الإقصاء والتطرف، لا يريدون أن يروا بلادهم أسيرة لأيديولوجيا ثبت فشلها، وأثبتت كل التجارب أنها لا تقود إلا إلى الفوضى والانقسام. سوريا الجديدة، بقيادة أحمد الشرع، لا تبحث عن شركاء في الانقسام، بل عن شركاء في البناء. وهي، بكل وضوح، لا تقبل الوصاية من جماعة ثبت تاريخياً أنها لا ترى في الدولة إلا وسيلة لتحقيق سلطتها، ولا في الديمقراطية إلا مرحلة مؤقتة نحو الاستبداد العقائدي. لذلك فإن الهجوم الحالي من قبل الإخوان على الإدارة السورية ليس إلا تأكيداً جديداً على أن هذه الجماعة لا تطيق رؤية دولة مستقلة ذات قرار حر وموقع عربي متوازن؛ لأن مثل هذه الدولة ببساطة لا تخدم مشروعها ولا تحتمل خطابها.
أخبار ذات صلة
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" جريدة عكاظ "
أخبار متعلقة :