بالبلدي | BELBALADY

: مشروع قومى للأمن الغذائى المصرى

في قلب الحضارة المصرية، منذ فجر التاريخ، لم يكن الفلاح مجرد عامل في الأرض، بل كان حاملًا لرسالة حضارية، وركيزة في بناء الهوية الوطنية. الحضارة التي ازدهرت على ضفاف النيل لم تقم بالسيف، بل قامت بالمحراث، ولم تُصنع في القصور، بل في الحقول، حيث كانت الزراعة والفلاح هما المعادلة الأولى لقوة مصر.

منذ الدولة القديمة، جسدت الزراعة مركزية الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكان الفلاح هو المحور الذي يدور حوله كل شيء.

النقوش الفرعونية لم تحتفِ بالملوك فقط، بل خلدت مشاهد الزرع والحصاد والريّ، وسجّلت احترام الدولة للفلاح باعتباره مصدر الاستقرار الغذائي والسكاني.

ويكفي أن نعود إلى قصة المجاعة في عهد فرعون ويوسف، عليه السلام، لنفهم عمق العلاقة بين الزراعة والنجاة. فقد كانت خطة يوسف العبقرية في مواجهة الأزمة تعتمد على تخزين الحبوب في صوامع خلال سنوات الوفرة، استعدادًا لسنوات العجاف. لم تكن تلك الخطة سوى تجسيد لثقافة زراعية متجذّرة، وخبرة ميدانية لفلاحٍ يعرف الأرض ويقرأ السماء.

وفي العصر الحديث، تجلت تلك القيمة مجددًا خلال عهد محمد علي باشا، الذي أدرك أن مصر لن تنهض إلا عبر الفلاح. فاستثمر في الزراعة، وشق الترع، وأسس مدارس للري والزراعة، واستفاد من الخبرة التراكمية للفلاح المصري، الذي عرف دورة المحاصيل قبل أن يقرأها في كتب، وكان يخطط لزراعته بناءً على رصده لتقلبات المناخ وتغيرات الأرض.

ورغم هذا التاريخ العريق، فإن أخطر ما واجه الفلاح المصري لم يكن الجفاف أو العدوان الخارجي، بل كان قرارًا إداريًا داخليًا في عام 1997، حين صدر قانون العلاقة بين المالك والمستأجر، والذي أُطلق عليه بين أبناء الريف اسم: "قانون طرد الفلاح". ذلك القانون لم يكن مجرد تعديل في بنود التعاقد الزراعي، بل كان طعنة في العمق الاجتماعي المصري. لقد أخرج ملايين الفلاحين من أراضيهم التي عاشوا فيها لأجيال، ليس فقط كمصدر رزق، بل كمصدر هوية. النتيجة المباشرة كانت انهيار منظومة الزراعة التقليدية، وتفكيك الريف، وظهور جيوب من البطالة والفراغ، ما أدى إلى انتشار المخدرات كمُسكّن للفقر والبطالة، وصعود الفكر المتطرف نتيجة الفراغ القيمي والتعليمي، وانهيار منظومة القيم الريفية التي كانت تُنقل شفويًا عبر الأجيال، وظهور التوكتوك كمركبة بديلة عن الفأس، تُنقل من خلالها كل أنواع السلوك المنحرف.

كان الفلاح المصري بمثابة "الكتاب غير المكتوب" الذي تعلمت منه أجيال معاني الإخلاص، الرضا، الاجتهاد، والكرامة. لم يكن ينتظر راتبًا من الدولة، بل كان يملك في بيته فرنًا للخبز البلدي، ومواشي تنتج اللبن واللحم، وقطعة أرض تنتج القمح والخضار والفواكه، وعلاقات اجتماعية متماسكة تضمن التكافل والانضباط. كان الاكتفاء الذاتي في بيوت الفلاحين هو الحصن الحقيقي لمصر ضد الابتزاز الخارجي. لم نكن نحتاج إلى استيراد القمح أو اللحوم أو الألبان، ولم يكن سعر الدولار يؤثر في طعامنا.

اليوم، وبعد مرور ما يقارب ثلاثة عقود من صدور "قانون الطرد"، بدأت الدولة تعود إلى الأرض من جديد.وقد شهدنا في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي طفرة في مشروعات استصلاح الأراضي، أبرزها مشروع "الدلتا الجديدة" و"مستقبل مصر". لكن حتى لا نُعيد أخطاء الماضي، يجب أن لا نعتمد فقط على الاستثمار الزراعي التجاري، بل علينا أن نبني مشروع زراعة وطنية بهوية مصرية، قائم على إعادة الفلاح الحقيقي إلى الأرض.

ينبغي حصر الفلاحين الحقيقيين الباقين من أجيال ما قبل 1997، ومنحهم أراضٍ مستصلحة بمساحات من 5 إلى 10 أفدنة، مع إنشاء منزل، حظيرة مواشي، حظيرة طيور، مصدر مياه وكهرباء في كل قطعة. تتكفل الدولة بتكاليف الإنشاء الأولي، ويُوقّع عقد بين الفلاح والدولة على سداد التكلفة خلال فترة زمنية عبر أقساط. الفلاح يلتزم ببيع منتجاته للدولة، ويُحدد له دورة زراعية وطنية من قبل وزارة الزراعة، ويتم توجيه الفائض للتصدير، والاكتفاء الذاتي، والتخزين الاستراتيجي. ويمكن دعم هذا النموذج من خلال تطبيق رقمي لكل فلاح لتسجيل المحاصيل والإنتاج، ومتابعة دورية من إدارات زراعية مختصة، ودعم فني دائم.

ولأن استقرار الفلاح لا يتحقق فقط بتوفير الأرض، بل أيضًا بتوفير مظلة حماية شاملة، فإن المشروع القومي للأمن الغذائي يجب أن يتضمن بندًا أساسيًا يتعلق بـ تأمين صحي واجتماعي لكل فلاح وأسرته، لضمان استمرار العطاء، والحفاظ على كرامة من يُطعم الوطن. كما يجب أن يستعيد البنك الزراعي المصري دوره التاريخي كذراع تمويلية وطنية للفلاح الحقيقي، من خلال تقديم قروض ميسّرة بفوائد مقبولة، وبضمان الأرض المُخصصة له ضمن المشروع، لدعم إنشاء مشروعات زراعية وحيوانية متكاملة، تُحقق الاكتفاء الذاتي وترفع من مستوى معيشته، بعيدًا عن الاستغلال أو الديون المُرهقة.

ولأن جودة الإنتاج الزراعي تبدأ من التربة، فإن المشروع القومي للأمن الغذائي يجب أن يتكامل مع خطة وطنية لتنظيف مجرى نهر النيل من شماله إلى جنوبه، من الكسبان الرملية والطفلية التي تراكمت بفعل الزمن والتعديات، خصوصًا على جانبيه الشرقي والغربي. هذه الكتل الطبيعية، التي تُستغل الآن بشكل غير قانوني في إنشاء جزر ومشروعات خاصة، يمكن أن تتحول إلى ثروة وطنية من خلال إنشاء مصانع متخصصة لتحويلها إلى سماد عضوي عالي الجودة. تُخلط هذه الرواسب مع المخلفات النباتية وروث المواشي ومحسنات حيوية مثل حمض الهيوميك والبكتيريا النافعة، لإنتاج خليط عضوي يعزز خصوبة التربة ويحميها من التملّح والتصحر.

يتم توزيع هذا السماد على الفلاحين المشاركين في المشروع الوطني، بما يُقلل الاعتماد على الأسمدة الكيماوية المستوردة، ويُعيد للتربة المصرية مكوناتها الحيوية الطبيعية. كما تخلق هذه الخطوة صناعة جديدة، توفر فرص عمل، وتُعيد التوازن البيئي لمجرى النيل، وتحول أحد مصادر التعدي إلى مصدر تنمية.

ما تبقى من الفلاحين الحقيقيين لا يتجاوز 20% من تعدادهم قبل عام 1997، وهؤلاء سيموتون أو ينقرضون خلال سنوات قليلة إذا لم تتدخل الدولة بقرار تاريخي. إنهم يمثلون موروثًا لا يُدرّس في الجامعات، بل يُحيا في البيوت والحقول. ليس المطلوب فقط استصلاح الأرض، بل استصلاح الروح، وعودة الفلاح ليكون مرة أخرى الجندي المجهول لحضارة مصر القادمة. مصر لا تحتاج فقط إلى مصانع وأسواق، بل تحتاج إلى رجل بفأس وضمير، يعرف أن الأرض وطن، وأن الزرع هوية، وأن الخبز ليس سلعة… بل كرامة.

إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"

المصدر :" الأسبوع "

أخبار متعلقة :